برد الجبل الفصل الاول والثاني والثالث والاخير كامله علي مدونة النجم المتوهج للروايات

 برد الجبل الفصل الاول والثاني والثالث والاخير كامله علي مدونة النجم المتوهج للروايات 

برد الجبل الفصل الاول والثاني والثالث والاخير كامله علي مدونة النجم المتوهج للروايات 

قصة اتسمت بالغموض وبكونها شيء لا يصدقه عقل على الإطلاق، شيء خاص بعالم الغموض والتشويق


                        القصـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة

((   برد الجبل ))  هنا حكايتنا في حدوته 


الحلقة الاولي

********

نبدء بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم 

👇👇👇👇👇


انا الدكتور عبد الرحمن والحكاية دي حقيقة وارجو التركيز في قراءة كل حرف بالقصة 


"حر الجبال ولا بردها"

عبارة سمعتها لأول مرة، في قلب الصعيد فترة التكليف الإجبارية هناك،


سمعتها وأنا أكاد أذوب، من فرط حرارة الجو، في منتصف يوليو.. وفي سخرية، واجهت قائلاً: أي برد هذا؟ منذ جئت إلى هنا، لم أشعر بلمحة واحدة من البرد، فالحرارة تكاد تبلغ الأربعين، في منتصف الليل، بخلاف النهار


تطلع إليّ الشيخ إبراهيم، صاحب قطعة الأرض التي أقيمت عليها الوحدة الصحية، وكأنه لا يفهم ما أقوله، ثم قال في حماس: انتظر حتى يأتي الشتاء، وستنعكس الصورة تماماً

لم أستطع تصديق هذا أبداً، في مناخ تحديت أحد أصدقائي بشأنه يوماً، فقمت بقلي بيضة طازجة، على سور الوحدة الصحية، بحرارة الشمس وحدها، في منتصف نهاره

ثم جاء الشتاء

ووجدت نفسي أرتجف

وأرتجف..

وأرتجف..

درجات الحرارة انخفضت إلى حد رهيب، حتى كادت أناملي تتجمد في قلب الليل، ولم أعد أستطيع النهوض من تحت الغطاء إلا لأسباب بالغة الأهمية، أو لحالات حرجة للغاية


وفي ذلك المناخ الرهيب، قابلتها

سعدية..

امرأة من فئة يقال لها الحلبية، تنتمي على الأرجح إلى قبائل الغجر، وتقوم مع قريناتها بخدمة أثرياء القرية، والقيام بأعمالهم الوضيعة، وعلى رأسها حلب الأبقار، في ساعات الفجر الأولى، وربما من هنا جاءت تسمية الحلبية

كانت عقارب الساعة قد تجاوزت منتصف الليل ببضع دقائق عندما سمعت دقات باب سكني الخاص، في الوحدة الصحية


وعلى عكس ما اعتدته، كانت الدقات رقيقة هادئة، تحمل لمحة من خجل خاص، يمكنني إدراكه بحكم خبرتي

وعلى الرغم من أنها كانت ليلة بالغة البرودة، لم أشعر بأدنى لمحة من البرد.. على عكس المعتاد وأنا أخرج من تحت الغطاء، وأقترب من الباب، متسائلاً في همس ربما ارتبط برقة الدقات: من بالباب؟


أتاني صوتها، أشبه بغناء رخيم عذب، وهي تنطق اسمها: افتح انا سعدية

لم أكن قد سمعت الاسم من قبل قط، منذ بدأت في الصعيد، ولكنني لم أكد أسمعها تنطقه بتلك الرقة، انتابني فضول شديد لرؤيتها، فأسرعت أفتح الباب، وأتطلع إليها في لهفة، تحت ضوء القمر

ويالجمال ما رأيت

* * *

كانت فاتنة، بكل ما تحملة الكلمة من معان

سمراء، رقيقة، هادئة الملامح، لها شفتان مكتنزتان، وعينان سوداء واسعتان، تعلوهما رموش من أبداع ما رأيت، وترتدي ذلك الزي البدوي المزركش، الذي يميز فئة الحلبة

لم أكن قد رأيتها من قبل قط، أو لمحت مثل هذا الجمال، أو تصورت حتى إمكانية وجوده هناك. مما جعلني أحدق فيها بدهشة، 


أصابتها بخجل واضح، فخفضت عينيها وهي تغمغم: عندي ألم في معدتي

لم أدرِ ماذا فعلت أنا بالتحديد، أو لست أذكر التفاصيل، إلا أنني حتماً قمت بالكشف عليها، وشعرت بدفء جسدها الصغير، قبل أن أقول في اهتمام: هناك اشتباه في الإصابة بالتهاب الزائدة الدودية

سألتني في رقة بالغة: وما هذه الزائدة؟

أجبتها مبتسماً: جزء من جسدنا، مازال يصر على إيلامنا في أوقات لا نتوقعها

سألتني: وكيف نعالجه؟

التقطت ورقة من أوراق العيادة، لتحويلها إلى أحد المستشفيات في المدينة، وأنا أجيب: هذا يحتاج إلى عملية جراحية

انتفض جسدها وهي تقول في ارتياع: عملية جراحية؟!... أتعني أنهم سيشقون بطني

قلت محاولاً التهوين في الأمر: إنه مجرد شق صغير، والعملية بسيطة، و

قاطعتني في صرامة: لا

ونهضت ترتدي ملابسها في حزم، فقلت في قلق: ولكن العملية حتمية، و

قاطعتني في صرامة أكثر: قلت لا


اقتربت منها، وقد هالني أن يتطور الأمر معها، لمجرد خوفها من إجراء جراحة بسيطة، وقلت: اسمعيني يا سعدية... حالتك شديدة، والعملية الجراحية ضرورة

هزت رأسها في قوة، وقالت: نحن لا نجري أية عمليات جراحية

غمغمت: حتى البسيطة منها؟

التفتت إليّ بعينين مغرورتين بالدموع، وهي تغمغم: أنت لا تدري ما ستفعله العملية الجراحية

سألتها في خوف: وماذا تتوقعين أن تفعله؟

أجابتني، والدموع تنهمر من عينها: ستقتلني

هتفت مستنكراً: تقتلك؟!.... مستحيل يا سعدية... لم نسمع قط عن مريض قتلته عملية زائدة بسيطة

تطلعت إليّ، وقد غرقت عيناها الواسعتان في بحر من الدموع، وغمغمت قبل أن تعدو نحو باب الوحدة: ستسمع قريباً


اختفت من أمامي فهرعت خلفها، أهتف: سعدية... انتظري... المفترض أن

في هذه المرة كنت أنا من قاطعت نفسي، أو بمعنى أدق، بترت عبارتي قبل أن تكتمل

فقد اختفت سعدية..

اختفت بمعنى الكلمة..

لم أدرِ أين ذهبت بالضبط بهذه السرعة، فربما غابت وسط الأشجار المحيطة بالمكان، أو دارت حول الوحدة، أو تلاشى ثوبها الأسود وسط ظلام الليل

المهم أنها قد اختفت

ولما كان من العبث، والمستحيل أيضاً، أن أعدو خلفها، دون أن أعلم أين ذهبت بالضبط فلم أجد أمامي سوى الصعود إلى سكني.. والنوم

والعجيب أنني نمت بعمق

بعمق شديد للغاية

نمت، ربما كما لم أنم، منذ بدأت العمل هنا

* * *

وفي اليوم التالي، كانت إجازتي تبدأ، فسافرت عائداً إلى بلدتي، وحاولت أن أنسى هناك كل شيء عن سعدية، والزائدة الدودية لها

وربما نسيت..

أو تناسيت..

المهم أنني قضيت إجازتي، وعدت بعدها إلى عملي في الصعيد، منتعشاً، هادئاً

وما أن صدمني تيار الهواء البارد، حتى استعدت كل شيء

برد الجبال..

وكلامها..

وليلها الطويل..

وسعدية..

في أول ساعة لوصولي، أردت أن أسأل عن أحوالها، وعما أصاب زائدتها الدودية، ولكنني أحجمت عن هذا، لأنه من الخطر في ريف الصعيد، أن يسأل رجل عن امرأة

أية امرأة..

وليومين أو ثلاثة... حاولت نسيانها، عبر الانهماك في العمل

ولعلي أفلحت..

ولكن بعد منتصف ليل اليوم الرابع بدقائق قليلة، سمعت دقاتها الرقيقة، على باب سكني

وبقفزة واحدة، أصبحت عند الباب

وفتحته


لم يكن هناك أحد عند الباب

فاجأني هذا ولاشك، فوقفت أحدق في الفراغ بمنتهى الدهشة، وأتساءل في حيرة، ترى هل سمعت دقاتها الرقيقة على الباب بالفعل، أم أنني تمنيت هذا فحسب؟

أمن الممكن أن أكون قد سمعت الدقات لرغبتي فيها؟

أمن المعقول هذا؟

مددت رأسي أتطلع يميناً ويساراً، بحثاً عنها، ولكن المكان كان خالياً تماماً، فعدت إلى فراشي، وأنا أهمس باسمها دون وعي، وما أن دخلت تحت الغطاء، حتى سمعت دقاتها مرة أخرى وكانت المفاجأة

اللهم اجعلنا من الصابرين، ولك في جميع أمورنا ذاكرين


الجزء الثاني 

********

                   رواية (( برد الجبل ))

                        ******

جروب حكايتنا في حدوته 

👇👇

 بعد منتصف ليل اليوم الرابع بدقائق قليلة، سمعت دقاتها الرقيقة، على باب سكني

وبقفزة واحدة، أصبحت عند الباب

وفتحته

وكانت المفاجأة

لم يكن هناك أحد عند الباب

فاجأني هذا ولاشك، فوقفت أحدق في الفراغ بمنتهى الدهشة، وأتساءل في حيرة، ترى هل سمعت دقاتها الرقيقة على الباب بالفعل، أم أنني تمنيت هذا فحسب؟

أمن الممكن أن أكون قد سمعت الدقات لرغبتي فيها؟

أمن المعقول هذا؟


مددت رأسي أتطلع يميناً ويساراً، بحثاً عنها، ولكن المكان كان خالياً تماماً، فعدت إلى فراشي، وأنا أهمس باسمها دون وعي، وما أن دخلت تحت الغطاء، حتى سمعت دقاتها مرة أخرى

وهذه المرة سمعتها بمنتهى الوضوح

ووثبت نحو الباب

وفتحته بحركة واحدة

ورأيتها

كانت تقف هناك، بسمارها، ورقتها، وعينيها الواسعتين

وبكل رقتها، غمغمت: أشعر بألم في بطني

قلت في حنان:كلانا يعلم ما يعنيه هذا

تجاهلت قولي تماماً، وهبطت إلى حيث حجرة الكشف الطبي

وبلا وعي، وجدت نفسي أتابعها في انبهار، وهي تهبط درجات السلم في رقة ونعومة، كما لو أنها ملاك جميل

ولحقت بها إلى حجرة الكشف

ودون أن أنتبه، أعدنا كل ما حدث في المرة السابقة

وعندما نهضت، قلت: هذه المرة، أنا مصر على ذهابك للمستشفى

سألتني في بساطة: ولماذا؟

أجبتها بسرعة: تحتاجين إلى إجراء عملية جراحية

قالت في حدة:لا... نحن لا نجري عمليات جراحية

قلت في ضيق: هل سنكرر الأمر؟

اغرورقت عيناها بالدموع مرة أخرى، وغمغمت:إنك لا تعرف ما ستفعله بي العملية الجراحية

قلت في حدة: لا داعي للكلام الفارغ.. هذا النوع من العمليات الجراحية البسيطة، لا يمكن

قاطعتني في استمرار، وكأنها لا تسمعني: ستقتلني

رأيت عينيها الغارقتين في الدموع، فتجمدت الكلمات على شفتي، ولم أحاول قول أي شيء إضافي، في حين اندفعت هي نحو الباب

واختفت..

تماماً كما حدث في المرة السابقة، كما لو أننا نعيد المشهد السابق

ولهذا لم يدهشني ألا أجدها في الخارج

فقط عدت إلى فراشي

ونمت..

وبمنتهى العمق..

كان توافقاً مدهشاً، لم أنتبه إليه، حتى فى المرة الثانية

فمنذ بدأت العمل في الصعيد، لم أنم بهذا العمق، إلا في الليالي التي تأتي فيها سعدية

ولقد أتت سبع مرات متتالية..

وفي كل مرة، كانت الأمور تسير على النسق نفسه..

دقات رقيقة

حوار قصير

كشف طبي

اقتراح بعملية جراحية

رفض..

وهروب..

واختفاء..

كل مرة بنفس الترتيب..

ونفس الأحداث..

وربما نفس الحوار..

وبين كل مرة وأخرى، تختفي سعدية لأسبوع كامل

على الأقل

وفي كل مرة، أشعر بقلق عارم عليها

ولا أنام..

ثم تأتي..

وأراها..

وأنام بعمق

بمنتهى منتهى العمق..


وبعد المرة السابعة، اختفت سعدية تماماً

مر أسبوع..

وثان..

وثالث..

ورابع..

ولم تظهر سعدية قط..


ولم يعد باستطاعتي الاحتمال، أو حتى مراعاة القواعد، لذا فقد استيقظت ذات صباح، وقد قررت أن أسأل عنها، مهما كان سيؤدي إليه هذا


وفي لهفة، هبطت إلى العيادة، وانتهزت أول فرصة، لأسأل عم شعبان، ممرض العيادة:هل تعرف حلبية اسمها سعدية؟

بدت عليه علامات التفكير، قبل أن يجيب:الاسم شائع بينهم، أية سعدية منهم تقصد بالضبط؟

أجيبه في حذر:إنها امرأة شابة، في أواخر العشرينات من العمر

مط شفتيه، مغمغما:لا يمكنني تذكرها... ولكن ربما تجيبك فهيمة

وفهيمة هذه كانت خادمة الوحدة، تتواجد معظم الوقت، وتقوم بكل العمل تقريباً

ولكنها امرأة

وستدرك حتماً حتماً لهفتي

لذا كان لابد أن أضع خطة، للسؤال عن سعدية

في البداية، بدأت أسألها عن أخريات

ثم أخريات

طرحت عدة أسماء، زارت العيادة من قبل، ثم التقطت نفساً طويلاً، وسألتها:وسعدية كيف... حالها؟

التفتت إليّ في دهشة، متسائلة: أية سعدية؟

أشحت بوجهي، حتي تعجز عن قراءة انفعالاتي، وأنا أجيب بصوت خرج على الرغم مني مختنقاً: سعدية الحلبية


لم أسمع جوابها لدقيقة كاملة، فالتفت إليها؛ لأجدها تحدق فيّ بمنتهى الدهشة، على نحو جعلني أسألها: ألا تعرفينها؟

وهنا نفضت رأسها، قائلة:بل أعرفها، ولكنني أتساءل: كيف عرفتها أنت؟

قلت في توتر:أعرف أنها تعاني من التهاب في الزائدة الدودية

هتفت: وهذا أيضاً تعرفه؟

حاولت أن أتظاهر باللامبالاة، وأنا أقول:أي طبيب بسيط يمكنه معرفة هذا

سألتني في دهشة: وهل عرفت من الطبيب؟

أغضبتني عبارتها، ولكنني تجاهلتها تماماً، وأنا أسألها: المهم.. كيف حالها الآن؟

تطلعت إليّ لحظات في شيء من الاستنكار، قبل أن تقول: لقد أجرت عملية الزائدة الدودية

هتفت: حقاً

أكملت في حزم: وماتت

وصعقني الجواب..

إلى أقصى حد


لم أستطع تصديق ما سمعته

سعدية ماتت؟

وفي عملية إزالة زائدة دودية ملتهبة؟

أمعقول هذا؟

سعدية بكل جمالها ورقتها تموت؟

وبهذه البساطة؟

لا يمكنني أن أصف كيف هالني الأمر وأفزعني، ولا كيف شعرت بالحزن والمرارة

سعدية الجميلة ماتت لأنها أطاعتني

لأنها فعلت ما نصحتها به

وأجرت العملية الجراحية

الخبر صدمني، ورجني من الأعماق، ومزق نياط قلبي تمزيقاً بلا رحمة، حتى إنني لم أبالِ بنظرة فهيمة المستنكرة المندهشة، ولا حتى بسؤالها: لماذا تأثرت إلى هذا الحد؟

أجبتها في مرارة وأسى: ومن ذا الذي يتجاهل موت فاتنة مثلها؟

هتفت بدهشة أكثر: فاتنة؟

ثم نهضت، متسائلة: وكيف عرفت هذا؟

أجبتها في حدة: لماذا يدهشك هذا؟!... إنني أعرف سعدية جيداً، لأنني وقعت الكشف الطبي عليها

هتفت بصوت مرتفع: كشف طبي؟؟

وارتجف صوتها فيّ، وهي تضيف: هذا مستحيل!... مستحيل تماماً

صحت بها في غضب: ولماذا مستحيل!... ألستُ طبيباً؟

أجابتني في توتر بالغ: بالتأكيد، ولكنك لم تكن هنا، عندما ماتت سعدية في العملية

سألتها مندهشاً: ماذا تعنين؟

أجابت ذاهلة: سعدية ماتت منذ خمس سنوات

صدمني الجواب بشدة، وهتفت بها:أي قول مختل هذا؟!.. سعدية التي أتحدث عنها كانت هنا منذ شهر ونصف الشهر فحسب

هتفت: مستحيل

قلت في إصرار: لقد فحصتها بنفسي

بدت حائرة مرتبكة، وخائفة بعض الشيء، قبل أن تقول في عصبية: إذن، فنحن نتحدث عن سعدية مختلفة

قالتها، واندفعت مغادرة السكن، وكأنها ترفض الحديث عن ذلك الأمر

وبقيت وحدي أرتجف، من فرط الانفعال

مستحيل

ما تقوله مستحيل

لا يمكن أن تكون سعدية التي ماتت، هي سعدية التي أعرفها، والتي فحصتها بنفسي

لقد لمستها، وشعرت بجسدها ودفئها

من المستحيل أن تكون هي

من المستحيل تماماً

أويت إلى فراشي مضطرباً، وأنا أفكر فيما سمعته من فهيمة، وأحاول، و

وفجأة، سمعت دقاتها

لوهلة، خُيل إليّ أنه جزء من حلم ما، فأرهقت سمعي، لأسمع الدقات مرة ثانية

نفس الدقات الهادئة، الرقيقة، الخجلى

وكالصاروخ، وثبت نحو الباب... وفتحته

وكانت هناك....


الجزء الأخير 

********


      رواية ((برد الليل))

          *************


لا يمكن أن تكون سعدية التي ماتت، هي سعدية التي أعرفها، والتي فحصتها بنفسي

لقد لمستها، وشعرت بجسدها ودفئها

من المستحيل أن تكون هي

من المستحيل تماماً

أويت إلى فراشي مضطرباً، وأنا أفكر فيما سمعته من فهيمة، وأحاول، و

وفجأة، سمعت دقاتها

لوهلة، خُيل إليّ أنه جزء من حلم ما، فأرهقت سمعي، لأسمع الدقات مرة ثانية

نفس الدقات الهادئة، الرقيقة، الخجلى

وكالصاروخ، وثبت نحو الباب... وفتحته

وكانت هناك...

سعدية..

بشحمها ولحمها، وسمرتها، وجمالها، وعينيها الواسعتين السوداوين


 همست: أشعر بألم في معدتي

ثم وجدتنا هناك في حجرة الكشف الطبي

وجدت نفسي أفحصها، وأتحسس موضع الزائدة الدودية في حرص أكثر، واهتمام أكبر

وشعرت بملمسها

وجسدها...

ودفئها...

إنها حقيقية..

حتماً حقيقية..

ومرة أخرى، اقترحت عليها أن تجري عملية الزائدة الدودية

ومرة أخرى رفضت في إصرار

وجرت..

واختفت..

السيناريو نفسه، كما يحدث في كل مرة

وهنا أيضاً عدت إلى فراشي

ونمت بمنتهى العمق


* * *


استيقظت في الصباح الباكر جداً، في حالة من النشاط والحيوية، لم أعهد نفسي عليها من قبل، حتى إنني هبطت إلى عيادة الكشف الطبي، قبل أن يصل أي من العاملين فيها

وقبل أن ينصرف عم حارس الخفير الليلي

رأيته يلملم أشياءه، وأنا أهبط في درجات السلم، فألقيت عليه التحية، وسألته: كيف حالك يا عم حارس؟

أجابني في حماس: في خير حال يا دكتور... نوم العافية.. أرى أنك نمت بعمق الليلة

سألته مبتسماً: كيف عرفت؟

أجابني في سرعة: لم أرء  ضوء حجرتك قط طوال الليل

توقفت لأسأله في دهشة: أأنت هنا طوال الليل؟

أجابني في حماس: بالطبع

ملت نحوه، وضحكت، قائلاً: يالك من كاذب كبير!!... كيف تدعي أنك هنا، ولم أرَك قط

أجابني في تلقائية صادقة: لأنك لم تستيقظ، منذ أويت إلى فراشك

قرصت أذنه، قائلاً: خطأ أيها العجوز... لقد هبطت لتوقيع الكشف الطبي على سعدية الحلبية، و

قاطعتني نظرة الدهشة المستنكرة في عينيه، فتوقفت لأسأله: ألا تصدقني؟

أجابني في سرعة: لا يمكنني تكذيبك يا دكتور، ولكنني أجهل معنى ما تقوله، فأنا لم أفارق مكاني بالفعل، طوال ليلة أمس، ولم أشاهد حلبية أو مغربية، بل ولم أشاهدك تهتبط إلى حجرة الكشف قط

هتفت: عم حارس

أجابني في حزم: صدقني يا دكتور.. هذ لم يحدث أبداً

ملت نحوه في غضب، قائلاً: وماذا لو أيدت سعدية قولي؟

نظر إلى عيني مباشرة، وهو يقول: مستحيل يادكتور!... إنه مجرد حلم... أو كابوس

توقفت مغمغماً: كابوس

أجابني في حزم: نعم... وخصوصاً أنك رأيت فيه عفريت سعدية

هتفت: عفريت مين؟

أجابني بمنتهى الحزم: عفريت سعدية الحلبية، التي ماتت في عملية زائدة دودية منذ خمس سنوات، وترفض مغادرة الوحدة الصحية، منذ ذلك الحين... لست أول طبيب يراها

وكانت هذه مفاجأة جديدة...

ومذهلة


* * *


هل يمكنك أن تصدق أمراً كهذا، لو مررت به؟

مستحيل

هذا بالضبط ما حدث معي

لم أصدق ما قاله حارس قط

صحيح أن الأمور كانت تتفق مع ما قاله، خاصة أن سعدية تؤدي دورها نفسه في كل مرة

ولكنها تختفي في النهاية

كل مرة تختفي، بعد أن نصل إلى عبارة واحدة

أن العملية ستقتلها

لقد قضيت ذلك اليوم كله، وأنا أفكر فيما قاله عم حارس حتى إنني لم أستطع القيام بواجبي اليومي، فصرفت كل الحالات غير العاجلة، وأحلت العاجلة إلى أقرب وحدة صحية، وأويت إلى فراشي مبكراً

وتحت الغطاء والدفء رحت أستعيد كل ما حدث

أمن الممكن فعلاً أن تكون سعدية مجرد شبح؟

شبح بكل هذا الجمال؟

إنني أسمع دقاتها الرقيقة على بابي، وصوتها الهادئ العذب وهي تصف حالتها

ثم إنني فحصتها بنفسي

شعرت بجسدها..

بدفئها..

وهذا لا يمكن أن يحدث مع شبح

الأشباح لا ملمس لها..

لا يمكنني أن أتحسسها

لا يمكن أن تكون دافئة..

ثم بدأ عقلي يستوعب الأمر، من زاوية مختلفة

لماذا تصورت أنني قد فحصتها بالفعل؟

لماذا لا يكون هذا مجرد حلم

ثم عم حارس يؤكد أنني لم أهبط إلى حجرة الكشف أمس

ولم تكن سعدية هناك

ربما كان مجرد حلم إذن

حلم واضح قوي، أحياه بكل مشاعري، حتى يخيل إلي أنه حقيقة واقعة

لقد قرأت شيئاً كهذا

قرأت عن أحلام تبدو أشبه بالواقع

أحلام يشعر خلالها المرء، كما لو أنه يخوض تجربة حقيقية

ربما كان مجرد حلم

ولكن لماذا ظهرت فيه سعدية؟

كيف علمت بوجودها؟

أو بحالتها؟

هذا لغز آخر

لغز كبير...

ولكن النوم العميق للغاية، الذي يترادف مع الأمر في كل مرة، يرجح فكرة الحلم

ويا له من حلم

حاولت أن أستعيد التفاصيل، ففوجئت بأن هناك دوماً فجوات، أعجز عن تذكرها

لحظات ضائعة في كل مرة

فهي تظهر عند الباب

ثم تصبح داخل حجرة الكشف الطبي

وهذا لا يتفق مع الواقع

بل مع الحلم..

في عالم الأحلام فقط، لا تكون هناك أهمية لترتيب الأحداث، أو حتى لمنطقها

نعم على الرغم من غرابته، فهو حلم

حلم زارني فيه شبح سعدية

الفكرة كانت مفزعة، إلا أنها دفعتني للنوم

النوم العميق

النوم العميق الذي استيقظت منه، على صوت دقاتها الرقيقة

وفي لحظة كنت أقف أمامها، وهي تقول عبارتها التقليدية: أشعر بألم في معدتي

وفي اللحظة التالية، كنا في حجرة الكشف الطبي

والعجيب أنني لم أكن أشعر بالخوف

ولا بأدنى ذرة منه

كنت فقط أشعر بقلبي يهفو إليها

ومرة أخرى فحصتها، وشعرت بلمسها، وجسدها، ودفئها... وكما يحدث دوماً، تطلعت إليها وكدت أخبرها أنها بحاجة إلى عملية جراحية

ولكن فجأة، قفزت فكرة أخرى إلى رأسي

ولوقت طويل نسبياً، تطلعت إلى سعدية في صمت، حتى سألتني هي بصوتها الرقيق: ألن تخبرني ماذا ينبغي أن أفعل؟

قلت في خفوت: سنحاول معالجة الالتهاب

حمل صوتها لهفة كبيرة، وهي تسألني: ألن يحتاج الأمر إلى عملية جراحية

كنت أعلم أنها بحاجة إلى هذا، وعلى الرغم من ذلك فقد أجبتها بنفس الخفوت: كلا.. سنستخدم علاجاً طبياً فقط

رأيت عينيها تتألقان، وهي تقول في شيء من السعادة: حقاً؟

قلت في هدوء عجيب: نعم يا سعدية.. لا عمليات جراحية

سمعتها تتنهد في ارتياح عام، قبل أن تقول: لا يمكنك أن تتصور كم أرحتني

غممت: تصورت هذا

دارت حول نفسها كراقصة بالية رقيقة، وهي تقول في سعادة جمة: منذ خمس سنوات أشتاق لسماع هذا

غمغمتُ: منذ قتلتك العملية

لم يبدُ أنها سمعتني، وهي تتابع في سعادة:كنت أعلم أن هناك علاجا بديلا.. العملية الجراحية لم تكن أبداً ضرورية

غمغمت: هذا ما يبدو

دارت حول نفسها دورة أخيرة، ثم وقفت في وسط حجرة الكشف الطبي، وتطلعت إليّ في امتنان شديد، وهي تقول: كيف يمكنني أن أشكرك؟

غمغمت، وأنا أشعر بنعاس شديد، يسيطر على كياني كله: ابقِي هنا

هزت رأسها في رقة، وقالت: لم يعد باستطاعتي هذا

ثم مالت نحوي، حتى شعرت بأنفاسها العطرة، وهي تضيف: لقد حررتني

العبارة عنت الكثير..

والكثير جداً..

وتضاعف شعوري بالنعاس..

تضاعف ألف مرة، وأنا أتابعها بعينين متثاقلتين، وهي تتجه كفراشة رقيقة نحو الباب، قائلة: ولا يمكنك أن تتصور كم أرحتني

وخرجت من الباب..

وذابت وسط الظلام

واستيقظت في الصباح التالي، بعد نوم عميق..

عميق للغاية..

وكانت آخر مرة تظهر فيها سعدية

وآخر مرة أراها فيها

ولسنوات طويلة، حاولت كتمان هذه القصة بكل أحداثها في أعمق أعماقي

ولسبب ما، رأيت أن الوقت قد حان لأرويها

ربما لأن الوقت قد حان لرؤيتها فحسب


تمت بحمد الله




Enregistrer un commentaire

Plus récente Plus ancienne