ليل ياعين الخامس حتي العاشر بقلم رضوي جاويش

ليل ياعين 

 الخامس حتي العاشر

بقلم رضوي جاويش


٥- من انتِ !؟..


تململت في ضيق تستشعر وجعا بمنطقة ما بجسدها..حاولت الاعتدال فتأوهت وفتحت عيونها لتوقن انها متكومة ارضا على ذاك البساط الخفيف الممتد تحتها ولاتزل الحقيبة تحت رأسها فاعتدلت تتأوه من جديد واضعة كفها اسفل ظهرها حيث موضع الألم جراء النوم بهذا الوضع في مثل هذا الجو البارد فلولا معطفها الثقيل نسبيا لماتت بردا وخاصة في هذا البيت العجيب المنحوت داخل صخر الجبل والذي تستشعر برودة طبيعية وانت داخلة .. 

لا تعلم كم مر من وقت وهي نائمة فقد جالت بأنحاء الغرفة تحاول ان تقع عيونها على ساعة حائط فلم تجد ..تنهدت ولم تعرالامراهتماما وهمت بالتمدد من جديد الا ان هذه الهمهمة جعلتها تتذكر ان معها بالغرفة زعيمهم المدعو ليل والذي عالجته منذ بعض الوقت .. 

يبدو انه يستفيق .. هكذا همست وهى تقترب منه في حذّر تحاول ان تتبين موضع قدمها في هذا الظلام .. فباب الغرفة مغلق وعليه حارس يقف بالخارج والعتمة تخيم على المكان الا من ضوء خافت تتراقص زُبالة مصباحه البعيد بأحد الكوات الموجودة بالحائط .. 

وقفت بالقرب من الفراش تطل عليه من عليائها ليهمس ليل في وهن :- مية .. عطشان .. 

اومأت برأسها وتطلعت لتلك القلة الفخارية الموضوعة جانبا فتناولتها ومدت كفها لاحد المناشف النظيفة تبللها بالماء واقتربت تجلس على حافة الفراش تمر على شفتيه بالمنشفة المبللة .. 

وهمست مؤكدة :- مقدرش اديك ماية على طول ده خطر عليك .. شوية شوية .. 

اخذ يرطب لسانه بقطرات الماء التي تبقيها على شفتيه حتى انفرج الباب عن محيا جابر هامسا في قلق :- هو فاج !؟.. 

هزت رأسها إيجابا ليهمس في راحة :- الحمد لله.. 

دخل وبدأ في رفع قوة الإضاءة داخل الغرفة وأشعل المصباح الاخر الذي كان مركون بالكوة الأخرى على الحائط الكائن بالجانب الاخر .. أُضيئت الغرفة بشكل جيد وخرج جابر للحظة وعاد بصينية طعام موضوع عليها أطباق مغطاة.. وضع الصينية جانبا ورفع الغطاء عن طبق ما  لتتصاعد منه الأبخرة .. 

مد كفه بالطبق هامسا :- لازما ياكل دي .. عشان يعوض الدم اللي نزفه .. 

همست عين لمحتويات الطبق متسائلة :- ايه دي!؟..  

اكد جابر مجيبا في فخر:- دي مِديدة .. بالسمن البلدي واللبن والحلبة .. 

همست عين معترضة :- بس دي تقيلة .. 

اكد جابرفي نفاذ صبر كعادته :- استغفر الله العظيم .. دي شفا يا داكتورة .. دوجيها هتعچبك.. 

ترددت قليلا قبل ان ترفع الملعقة ببعض من الخليط المتجانس الذي يشبه في قوامه المهلبية لفمها .. استطابتها فهمست في استحسان :- دي فعلا حلوة قوي .. 

ابتسم جابر هاتفا في فرح :- المديدة مغذية وتدفي ف البرد الشديد .. 

ونهض مقتربا من موضع ليل هامسا له في محبة:- يا ليل بيه .. حمدالله بالسلامة .. شد حيلك معايا عشان لازما تاكل .. 

استند عليه ليل ليرفعه جابر قليلا في حذّر مريحا جزعه على وسادة خلف ظهره .. 

تأوه ليل ثم كتم وجعه وهو يتحرك في بطء معدلا وضعية جلوسه وما ان سكن حتى وقعت عيناه على عين التي كانت تقف بالقرب من الفراش ممسكة طبق المِديدة في انتظار إطعامه .. 

همت بالجلوس موضعها السابق على طرف الفراش الا انها عدلت عن ذلك وظلت تقف في ثبات عندما همس ليل في لهجة يسكنها الضيق متسائلا :- مين دي !؟.. 

هتف جابر مفسرا :- لحجت نسيت يا بيه !؟.. دي.. 

قاطعه ليل ضجرا في وهن :- عارف انها اللي ظهرت فچأة فجلب التسليم وخربطت الدنيا .. اني عايز اعرف دي مين !؟.. وايه اللي چابها ساعتها..!؟..  

وتطلع اليها ليل شذرا بنظرات قاتمة يملأها الشك هاتفا بلهجة حاول ان يجعلها صارمة رغم وهنها:- انتِ مين يا بت !؟.. ومزجوجة علينا من مين !؟.. 

تلجلجت عين لا تعلم بما تجيب ليستطرد هاتفا في شدة تتعارض تماما مع وهنه :- انطجي .. 

اثرت شدة لهجته على احساسه بألم جرحه فوضع كفه على موضع الضمادة وتغضن وجهه مؤكدا معاناته ليهتف جابر مؤكدا في حنق لعدم إعطائه الفرصة ليشرح :- استغفر الله العظيم..الداكتورة .. 

رفع ليل نظراته نحوها ولاتزل قسماته تشي بأوجاعه مقاطعا إياه متعجبا :- داكتورة !؟.. 

اكد جابر مفسرا:- ايوه داكتورة .. ولولاها مكناش عرفنا نلحجك .. هي اللي جامت بالازم ..

همس ليل وهي تكاد تذوب من شدة وقع نظراته المتفحصة عليها :- برضك معرفناش .. ايه اللي چابها المعبد ف الساعة دي !؟.. 

هم جابر بالشرح مجددا الا ان عين الحياة همست بأحرف مضطربة :- اختي مخطوفة وجالي جواب م العصابة أقابلهم ف المعبد الساعة خمسة المغرب عشان ياخدوا الفدية ويرجعوها.. 

وتذكرت انها تملك الخطاب بجيب معطفها فاخرجته في عجالة تناوله إياه .. 

مد كفه متناولا قصاصة الورق وقرأها بعد ان حمل جابر اليه احد المصبابيح .. تطلع ليل اليها للحظة ثم ترك الورقة امامها واضعا كفه من جديد موضع جرحه يحاول وأد ضحكات ظهرت على جانب شفتيه حتى لا يزداد الألم وهو يشير للورقة هامسا :- اجري الورجة يا داكتورة .. الميعاد مكانش ف معبد ابوسمبل .. كان ففندج ابوسمبل .. 

انتشلت الورقة من جديد تتطلع للسطر المكتوب بها ووقع ناظرها على كلمة فندق بدلا من معبد .. 

شهقت في صدمة ليتطلع اليها ليل من جديد مسنداً رأسه للخلف في تعب بينما هتف جابر في دهشة:- كلمة واحدة جلبت الدنيا يا داكتورة .. 

همست باضطراب :- انا ازاي مخدتش بالي !؟.. 

همس جابر ملتمسا لها العذر :- اكيد من جلجك على اختك .. بس كنك چيتي عشان تطيبي ليل بيه.. 

هتف ليل مغمض العينين في نزق :- ليل بيه مكانش هايتصاب لولاها .. 

همس جابر ممتعضا من سيده :- استغفر الله العظيم .. 

ليستطرد ليل في غطرسة :- هتوكلونا ولااه نناموا!؟ .. اني تعبان ومش فايج لحكاويكم.. 

تجاهلت عين غطرسته هاتفة :- طب طالما عرفنا انه سوء تفاهم .. انا ممكن امشي .. ولا ايه !؟.. 

هتف ليل في مزيد من الغطرسة :- ولا ايه !؟.. 

ورفع رأسه متطلعا اليها هاتفا :-انتِ خلاص بجي مكانك هنا لحد ما نشوفوا ليلتنا هاتخلص على ايه وبعدين نسيبوكِ .. 

هتفت مستجدية :- طب ما تسيبوني دلوقتي اروح اشوف اختى حصل لها ايه !؟.. 

هز ليل رأسه رافضا وهمس مؤكدا:- ما ينفعشي يا داكتورة ..مش يمكن تروحي تبلغي البوليس على مكانا اوحتى تبلغي حداد ما يمكن هو اللي خاطف اختك .. اوتعملي أي مصيبة تحط على راسنا .. 

وأشار لإصابته مستطردا :- كفاية اللي حصل لحد كِده .. انتِ مكانك هنا لحد لما ربنا يئذن .. 

تطلعت اليه في جمود لا تصدق ما يقوله .. غامت عيونها وقد تجمع الدمع بمقلتيها فما عادت تستوضح صورته امام ناظريها .. استشعر معاناتها لكنه لم يعقب بل هتف بنزق من جديد:- ايه اللي ف الطبج اللي انت شيلاه دِه !؟.. 

جلست في تيه على حافة الفراش قبالته ومدت كفها اليه بملعقة من محتويات الطبق في شرود .. 

تناولها من يدها مستحسنا في استمتاع :- مِديدة يا چابر .. چت ف وجتها .. 

هتف جابر مبتسما :- بالهنا يا بيه .. 

قدمت اليه ملعقة أخرى بكف يهتز في اضطراب وهى تحاول ابتلاع دمعها بغصة استقرت بحلقها كادت ان تزهق روحها لكنها ازدردت ريقها بصعوبة لكن الكف الممتد ازداد ارتجافا لتسقط محتويات الملعقة على صدره .. 

تطلع اليها ليل في ثبات ولم يعقب بينما اندفع جابر هاتفا في تفهم :- عنك يا داكتورة .. ارتاحي انت.. 

تركت الملعقة بقلب الصحن الذي ناولته إياه وابتعدت لركنها القصي حيث تركت حقيبتها .. 

هتف جابر في تعاطف :- مش هتاكلي يا داكتورة المِديدة جبل ما تبرد !؟.. 

هزت رأسها نافية ولم تنبس بحرف واحد وأخيرا سال دمعها على خديها سخينا غير قادرة على حبسه اكثر من هذا وقد ادركت انها أصبحت حبيسة تلك الدار الى ان يشاء الله .. 

             *****************

جالت نجوى بناظريها وهي تدخل الى القسم تحاول تذكر اين يقبع مكتب ذاك الضابط الذي قابلته المرة الماضية لتسأله عن اية اخبار جديدة فيما يخص عين الحياة اختها لكنها لم تستطع التذكر وما ان همت بإيقاف احد العساكر لسؤاله حتى ظهر هشام مندفعا خارج القسم .. 

توقف متطلعا اليها وقد تذكرها فورا وقبل ان تهتف به تستوقفه كان هو قبالتها متسائلا :- خير يا آنسة نجوى.. فيه جديد !؟.. 

هتفت نجوى محبطة :- ده انا كنت فاكرة اني هاجي اسمع منك أي خبر يطمني على عين .. 

أشار لها لتتبعه لحجرة مكتبه وأخيرا استقر خلفه هاتفا في محاولة لتهدئتها :- والله بنحاول نعمل اللي ف وسعنا .. بس مفيش جديد للأسف .. 

هتفت نجوى بصوت متحشرج :- تلات ايّام من غير خبر واحد عنها ..!؟.. ده معناه ايه !؟.. اكيد حاجة وحشة .. 

هتف هشام مؤكدا :- لا مش شرط .. ممكن يكون التأخير ده فيه خير .. 

هتفت نجوى في اضطراب :- انا كان المفروض امشي ف اليوم اللي هي وصلت فيه .. كنت هسافر عشان اخد بالي من ماما لانها مريضة قلب ومينفعش نسبها لوحدها  اكتر من كده على بال ما هي تتفسح لها شوية .. لكن دلوقتي لازم اسافر لاني خلاص.. المفروض حجز الفندق يخلص بكرة الصبح .. بس انا مش عارفة أقول لماما ايه لو سألتني عنها !؟.. 

ضمت شفتيها في محاولة لكبح جماح دموعها من الانفلات .. يكفيها انهيارها المرة السابقة امامه .. 

هتف هشام في تعاطف :- سافري ومتقلقيش .. أي جديد هبلغك بيه .. بس استأذنك اخد نمرة تليفونك  عشان اعرف أتواصل معاكِ .. 

هتفت مؤكدة :- اه طبعا .. 

وأملته إياه ليحفظه باسمها مؤكدا :- تقدري تسافري بالسلامة ولو والدتك سألتك على اختك قوليلها انها بتتفسح وراجعة .. وربنا يسهل في خلال كام يوم يظهر أي جديد .. 

هتفت نجوى متضرعة :- يا رب .. 

ونهضت مستأذنة لينهض محييا إياها متتبعا لها بناظريه حتى خرجت في هدوء مغلقة الباب خلفها وهي تلقي عليه نظرة أخيرة كان لها وقع عجيب على نفسه .. 

           

           *******************


٦- مدار محترق 


ثلاث ليال مرت وهي على حالها قابعة بذاك الركن المنعزل بالغرفة التي يتمدد فيها على فراشه 

وقد تحسنت حاله قليلا .. غير ان جابر احضر لها مرتبة وغطاء صوفي كبعض من رفاهية توفر لها نوما اكثر راحة والقليل من الدفء .. 

نهضت من موضعها في اتجاهه حيث يستلق غارقا في سبات عميق من اثر العقاقير التي يتناولها ..مدت كفها الى ذاك الكبس البلاستيكي الذي يحوي عدة أدوية  تناولت بعضها لتحقنه بها فقد حان موعدها اليومي .. 

جلست على طرف الفراش في هدوء تغض الطرف عن جزعه العاري الا من تلك الضمادة التي تبرز موضع جرحه بلون احمر قانِ .. 

تطلعت اليه تستطلع اذا كان استيقظ لاقترابها من فراشه اوحتى جلوسها جواره ..فأمثاله يغلقون عينا ويفتحون الأخرى اثناء نومهم مثل ذئاب الجبال حتى يتجنبوا القبض عليهم ووقوعهم بايدي الشرطة وبراثن القانون .. 

تأكدت انه يغط في النوم ما منحها فرصة سانحة لتتفرس بملامحه .. حاولت ان تستنج عمره وتوقعت انه لا يتعدى الثالثة والثلاثين عاما على أقصى تقدير ذو شعراسود حالك سبط لا هو بالمجعد ولا بالمسترسل .. جبهة عريضة وحاجبان كثيفان يحتلان قاعدتها يحرسان عيون ثاقبة النظرة تغير ملامح ذاك الوجه المستكينة في تلك اللحظة لغفوتهما الي ملامح اكثر شراسة وقسوة .. انف يعلو في غطرسة ملكية وفم واسع بشفاه غليظة قليلا وأخيرا شارب منمق يتصل بلحية مهذبة تمتد بطول ذقنه المنحوت كما تمثال من صوان ..

انتفضت حتى كادت تسقط حقنة الدواء عندما همس في لامبالاة وهو يضع ذراعه الأيمن فوق جبينه :- بجالك ساعة بتطلعي فيا والحجنة حمضت ف يدك .. مش تنچزي !؟.. 

اطاعت في اضطراب وهي تمد كفها بحقنة الدواء تجاه ذراعه اليسرى الممددة في اتجاهها .. حقنته فلم يحرك ساكنا ..انتهت وهمت بالنهوض في محاولة للهرب بعيدا الا انه قبض بكفه على معصمها ليعيدها موضعها هامسا وما تغيرت وضعيته :- مش هتغيري ع الچرح .. ولاااه نسيتي !؟.. 

كان محقا فقد كانت رغبتها في الهرب مبتعدة مسيطرة على عقلها كليا حتى انها نسيت بالفعل ان عليها تغيير الضمادة بأخرى جديدة ورغم ذلك همست مدعية :- لا منستش بس هروح اجيب الشاش والقطن .. 

ترك معصمها في هوادة وما ان تأكدت انه فك أسرها حتى انتفضت مبتعدة تتشاغل عن ذاك الاضطراب الذي يشملها بالبحث عن المقص حتى تبدأ مهمتها .. 

جمعت كل ما هي في حاجة اليه وجلست على طرف الفراش كالمعتاد .. ما ان استشعر قدومها بقربه حتى رفع ذراعه من فوق جبينه وسطعت عيناه بتلك النظرة التي تكبلها كليا .. 

استند على ذراعه الأيمن حتى رفع جذعه مستندا على ظهر الفراش .. 

اصبح اللحظة بعيدا عن متناول يدها وستضطر للاقتراب اكثر حتى تصبح قادرة على التعامل مع الضمادة التي تطوق صدره .. 

اقتربت مكرهة بالفعل وأمسكت المقص بكف مرتعش حاولت قدر إمكانها منحه الثبات وخاصة مع تلك النظرات المتفرسة التي يسلطها عليها في إصرار يورثها توترا بلا حدود .. 

تنفست الصعداء عندما تخلصت من الضمادة القديمة بقصها .. وبدأت في تعقيم الجرح .. 

رفعت ناظريها اليه مستطلعة مما قُد هذا الرجل الذي لم يهتز للحظة جراء وضع ذاك الدواء الموجع على جرحه الحي لتصطدم نظراتها بعينيه الصارمة لتأسرها بلا فكاك لبعض الوقت .. 

لا تعرف كيف استطاعت ان تفك ذاك الاسر المضني لروحها وعادت تضع بعض القطن مع محاولة لف الشاش حول صدره .. 

وهمست داخليا في غيظ :- راح فين جابر .. كان بيساعد كل مرة .. 

اضطرت لتميل نحوه قليلا حتى تمرر الشاش من خلف ظهره لتعاود لفه من جديد .. 

كررت فعلتها عدة مرات وفي كل مرة كان هو يقترب قليلا مع ميلها نحوه حتى يساعدها على قدر استطاعته لكن كل هذا كان على حساب ثباته الداخلي .. كان اقترابها بهذا الشكل وكأنما هي باحضانه له وقع عجيب على نفسه وفي كل مرة كان يقترب منها كأنما يقترب من قلب الشمس فيشتعل للحظة ليعاود الابتعاد ثم الاقتراب من جديد وكأنه كوكب هرب من فلكه معربدا لاحتراق مداره الذي يضبط إيقاع حركته فأضحى تائها بلا هداية..

انتهت وصلة التعذيب لكلاهما ليظهر جابرعلى اعتاب الحجرة حاملا صينية الطعام هاتفا في ضيق عندما وجدها قد قامت بتغيير الجرح لليل بمفردها دون مساعدته :- استغفر الله العظيم ..اتاخرت عليكِ يا داكتورة معلش .. بس  كنت بشوف ايه الأخبار .. 

هتف ليل وهو لايزل تحت تاثير اقترابها منه وعينيه لم تحد عنها رغم ابتعادها :- وايه الاخبار!؟.. فيه چديد !؟.. 

اكد جابر:- ايوه .. حداد تايه مش لاجي حد يبيع له بضاعة كيف اللي عندك.. خليه يورينا شطارته ونشوفوا هيعمل ايه مع سيده مرعي لما يعرف اللي عِمله معاك !؟.. 

هز ليل رأسه في رزانة هامسا :- طب تمام .. 

هم جابر بوضع صينية الطعام على فخذيه وان يتناول عدة أطباق منها ليضعهم امام عين لتتناول طعامها وحيدة حيث تكون على راحتها الا ان ليل هتف رافضا وأمره :- حطها ع الأرض وكلنا نكلوا سوا .. 

هتف جابر معترضا :- بس لساك تعبان يا بيه .. ليه تجوم من .. 

قاطعه ليل امرا من جديد :- اني بجيت كويس وزهجت م الرجدة .. حط الصينية مطرح ما جلت لك .. 

اومأ جابر برأسه في طاعة منفذا ليضع الصينية على احدى الحصر بوسط الغرفة .. نهض ليل في هوادة بمساعدة جابر وجلس حول الصينية مشيرا لعين هاتفا :- مدي يدك يا داكتورة بِسْم الله .. 

هتفت رافضة :- لا مش جعانة .. 

اكد جابر :- طب حتى عشان يبجى عيش وملح .. 

هتفت في تهور ساخرة :- عيش وملح مع اللي خاطفني !؟.. 

هتف ليل معترضا :- احنا مخطفناش حد .. انتِ اللي رميتي بلاكِ علينا .. 

هتفت مستدركة :- بس انتوا محتجزني هنا بدون وجه حق .. 

هتف ليل معترضا :- مين جال !؟.. احنا سايبنك هنا لأننا بنأمنوا نفسينا .. وده حجنا .. وجلنالك لما نخلصوا امورنا على خير هنسيبوكي .. حد غيرنا كان جتلك وتاوي جتتك ومحدش عرفلك طريج چرة .. وتعالي كلي بدل ما تكبر ف دماغي ونخلصوا منيه دلوجت الموال الماسخ دِه ..

هتف بتهديده الأخير في نبرة جعلتها ترتجف داخليا وبنظرة بسيطة اليه ايقنت انه ليس تهديدا اجوفا بل هو قادر على ذلك تماما فتحركت في هوادة وجلست حول الطاولة ليزفر هو في ضيق أمرا إياها :- كلي .. 

همست متطلعة الى الطعام الذي لم يكن معتادا بالنسبة لها :- اكل ايه !؟.. 

تعرفت على بعض الأصناف خلال اليومين السابقين لكن اليوم لا تعرف معظم ما هو موجود بالأطباق .. 

اشارت لطبق به بعض الخضروات المطبوخة متسائلة :- ايه ده !؟..ده شبه الملوخية ..

هتف جابر شارحا :- ايوه صح يا داكتورة.. دِه عندينا اسمه جاكود .. عبارة عن سبانخ محطوط عليها بامية مطحونة .. تشبه الملوخية ف الشكل لكن طعمها غير .. جربيها .. 

مدت كفها بملعقة تتذوق الطعم وهمهمت مستحسنة:- طعمها حلو فعلا .. 

كان ليل يدعي انشغاله بالطعام يرنو اليها بطرف لحظه من ان لأخر مستمتعا بما يحدث .. 

لتشير مرة أخرى لاحد الاطباق البعيدة عن متناول يدها :- وده ايه !؟.. 

هتف جابر وهو يناولها الطبق :- دِه الكرمديد ..زي ما تجولي كده فتة معمولة بعيش الدوكة اللي دوجتيه جبل سابج وعچبك وخليط من المية والزيت والحلبة المطحونة .. 

ومد جابريده بطبق اللحم لتتناول منه ما تشتهى هاتفا :- ودِه اسميه الكاشيد ..

تناولت بعضه فاعجبها كذلك وهتفت في أريحية ندمت عليها لاحقا :- انا عقبال ما ارجع هكون تخنت بتاع عشرة كيلو .. والدنيا برد والأكل حلو بجد.. 

نهض جابر يحضر قلة المياه بينما همس ليل في لهجة تقريرية وهو يتفرس بها من جديد :- كام كيلو زيادة مش مشكلة يا داكتورة .. بالعكس ..

وتفرس فيها بنظرة شاملة وابتسم ابتسامة ماجنة كانت كافية وزيادة لتخبرها ما كان بصدد قوله عندما عاد جابر بالقلة الفخارية والتي أتت بوقتها تماما لانها غصت بلقيمتها وكانت تحتاج للماء بشكل فوري حتى تستطيع ان تبتلع التلميح الماجن لذلك الوقح ..


              *****************


٧- اباياسا !؟..


 وقفت على ذاك الجرف العالي تضم معطفها في وجه ذاك الهواء البارد تتطلع للأفق البعيد الى النيل الساحر وبيوت القرية النوبية الملونة بألوان من فرحة تشرح قلب الحزين وتملأه املا .. 

شعرت بسكينة عجيبة وسلام نفسي لم تستشعره منذ زمن بعيد .. ظهر جابر ليقف جوارها متطلعا الى الأفق بدوره وتنهد في حسرة لتوجه ناظريها اليه متسائلة في قلق :- هو ليل بيه بخير !؟.. 

اكد جابر بإيماءة من رأسه ولم يعقب بحرف فتنهدت في راحة هامسة :- المنظر من هنا رائع بجد وكأنك بتطل ع الجنة ..

ابتسم جابر في مرارة :- الچنة راحت يا داكتورة .. الچنة الحجيجية غرجت في تعليات خزان أسوان ومن بعده السد العالي .. اللي انت شيفاه ده يا دوب بواجي من النوبة الأصلية جبل ما مية الخزان والسد يغرجوها ونتهچروا كلنا .. 

وتنهد من جديد بقلة حيلة هاتفا :- أوعي تفتكري اني مضايج ..الخزان والسد العالي مصلحة لمصر كلها .. بس هو الحنين اللي ذرعه فينا أهالينا لأرضنا الجديمة وحلم الرچعة .. 

هزت رأسها وشعرت بغصة الالم في حديثه فتحركت مبتعدة في هدوء احتراما لقدسية الوجع الكامن داخله وجلست على احد المقاعد الكائنة على مدخل الدار المنحوتة داخل الصخر .. 

بدأ جابر في الغناء بصوت شجي اثار داخلها شجنا تعجبته لانها لم تكن تفهم ما يشدو به .. فقد كانت على ما يبدو أنشودة نوبية قديمة :- 

اباياسا ابا فيسكيرو ...

وي شوب دارلينايا ...

توبة وووه مالينتو ..

تنبهت ان شخصا ما جلس ليستقر جوارها فإذا به ليل وقد تحامل على نفسه حاملا ذراعه ذات الكتف المصاب بحامل حول رقبته وقد استشعرت انه اصبح افضل حالا .. همست تسأله :- بقيت احسن دلوقتي..!؟.. 

اومأ برأسه مؤكدا وهو يتطلع الى جابر فاستطردت هامسة :- هو بيغني يقول ايه !؟.. 

همس ليل وقد حاد بناظريه متطلعا للافق الخلاب امامه :- دي اغنية حنين للنوبة القديمة .. 

همست :- بتقول ايه !؟.. تعرف معناها بالعربي !؟ 

اكد بإيماءة من رأسه وهمس مترجما كلمات جابر النوبية :- 

اباياسا  ابا فيسكيرو .. 

هل يا ترى سيكون في وسعنا !؟

وي شوب دارولينايا..

ان نعتبر كأن شيئا لم يحدث ..

نوبة ووه مالينتو ..

يا نوبة يا وطن الجميع وحبهم الكبير.. 

شورتي تول كولوستو ...

مكانك في القلب .. 

موادي وادي جاجا فارسون باني يدي..

سيرتنا وحكايتنا في دروب القرية الحلوة.. 

تار كومبا كاشا ناجرشا اراجيد ويي ...

ايقاعات الدفوف وانغامها وحلقات الرقص..

تري هل ذهب هذا بلا عودة ..!؟..  

ابجيسمونا تار يوم ويي.. 

هل سيمن علينا القدر برؤية هذه الأيام 

نوبة تووو مالينتو ....

يا نوبة ياحبنا الكبير يا محبوبة الجميع.. 

انتهى جابر من غنائه ليسود الصمت للحظات وقد انتهى ليل من ترجمة كلمات جابر الذي ظل يقف كتمثال صخري لا يحرك ساكنا وأيقن ليل بحدسه انه يبكي فلم يشأ ان يناديه وتطلع اليها ليجد دموعها تنساب في رقة على خديها .. استشعر اضطرابا ما داخله فحاد بناظريه بعيدا عن محياها محترما تأثرها المُهلك ذاك والذي أورثه تسارعا في نبض خافقه ما خبره من قبل .. 

تحرك جابر راحلا ينحدر التلة لينتفض خلفه ليل هاتفا في تعجب :- على فين يا چابر !؟.. 

هتف جابر مؤكدا في حنق معتاد :- اووف .. استغفر الله العظيم .. رايح اچيب لكم العشا ..

عاد ليل موضعه جوارها ولم ينبس احدهما بحرف واحد الا انها نهضت في اضطراب تهم بدخول الدار هامسة بأحرف متلعثمة لا تدري ما دهاها :- عن اذنك..  

هتف ليل في تجهمه الفطري :- مش هتتعشي !؟.. ما انت سمعتي چابر .. جال رايح يچيب العشا .. خليكي جاعدة لحد ما يرچع وبعدين ابجى ادخلي نامي .. 

عادت موضعها جواره تجلس في عدم راحة لا تدري مصدرها.. حاولت الا يسقط ناظرها عليه فظلت عيونها تتطلع للافق حتى غابت الشمس مخلفة ورائها لون برتقالي حار شمل الاجواء وسكب الدفء بارجائها...

               

               **************

قلب الهاتف بين يديه مترددا هل يتصل بها ام لا داعِ !؟.. ظل حائرا لبعض الوقت حتى حسم امره وضغط على زر الاتصال بها .. 

لم يستغرق الامر الا لحظة حتى جاءه صوتها الشجي على الطرف الاخر ليُذهب براحة باله الى غير رجعة وهي تهتف في لهفة :- الو .. الو يا حضرة الظابط .. 

هتف هشام ما ان استجمع شتات نفسه :- الو.. السلام عليكم يا آنسة نجوى .. اخبارك ايه !؟.. 

هتفت في عجالة :- الحمد لله .. تمام .. 

هتف يحاول إطالة الحوار :- وأخبار صحة الوالدة..!؟.. يا رب تكون .. 

قاطعته نجوى هاتفة في لهفة :- ماما بخير فيه اخبار عن عين !؟.. 

تلعثم هشام هاتفا :- هو الصراحة .. لا .. مفيش أي أخيار جديدة .. بس 

هتفت نجوى في ضيق وقد شعرت بإحباط رهيب:- بس ايه !؟.. 

اكد هشام متلعثما :- بس خير ان شاء الله .. انا اتصلت عشان اطمنك اني مش سايب الموضوع .. 

هتفت في هدوء :- متشكرة لحضرتك .. 

ساد الصمت للحظة ظل يبحث خلالها عن ايه اعذار يمكن ان يطيل بها عمر المكالمة لكن عقله المشوش لم يسعفه فهتف في قلة حيلة :- طب اقولك سلام عليكم .. 

همست نجوى :- وعليكم السلام .. 

أغلقت الهاتف ليتطلع هو لهاتفه في غيظ هامسا في حنق :- مكنتش قادر تطول المكالمة شوية !؟..كنت قول أي حاجة .. 

هتف العقيد حسان وهو يدخل على هشام مكتبه ليجده على هذه الحالة :- انت بتكلم نفسك يا هشام..!؟.. 

انتفض هشام مؤديا التحية هاتفا :- لا يا فندم بكلم نفسي ايه .. بعد الشر عليا .. انا كنت بفكر ف القضية .. اصلها عويصة قوي .. 

ابتسم العقيد حسان في خبث ولم يعقب .. 

                  *************

انتهوا من تناول الطعام لينهض جابر مبعدا الصينية الفارغة حاملا ركوة يصنع عليها الشاي 

هتفت عين وهي تراه يحضر الأكواب على صينية صغيرة :- انا عايزة ..إتشي جيلّة .. يا جابر .. 

قهقه جابر مؤكدا :- من عنايا يا داكتورة .. بقيتي خبيرة باللغة النوبية .. 

قهقهت بدورها وليل يتابعها :- خبيرة ايه بس ده انا يا دوب حفظت أسماء الأكلات بالعافية .. واسم الشاي باللبن عشان بحبه .. 

اكد جابر مبتسما :- احنا النوبيين المشروبات المفضلة عندنا تلاتة .. ال اتشي جلة ده الشاي بلبن .. والكركدية الساقع ف الصيف .. والأبريه ده ف رمضان أساسي .. 

هتفت عين مازحة :- لا خلينا ف الشاي بلبن .. مفيش احلى من اتشي جلة ف الشتا ده .. 

ناولها الكوب فتناولته محتضنة إياه ليبعث ببعض الدفء في اوصالها وقد بدأت درجات الحرارة في الانخفاض عندما اخذ الليل يرخي سدوله ناشرا العتمة بالافق .. 

تناول ليل كوبه كذلك مرتشفا منه في استمتاع .. تطلعت الى جلبابه الخفيف في مثل ذلك الطقس البارد وهمست :- لازم تلبس حاجة اتقل من كده.. انت تعتبر لسه تعبان .. وممكن يجيلك مضاعفات.. 

همس ليل دون ان يوجه اليها ناظريه :- انا مرتاح كِده .. ومتعود ع البرد .. 

همست معترضة :- الكلام ده لما تكون بحالتك الطبيعية ابقى اعمل اللي انت عاوزه .. لكن انت دولوقتى تعبان يبقى لازم تلتزم بكلامي .. 

ادار وجهه ناحيتها هامسا بتعال :- ليه !؟.. 

همست بتعال مماثل :- عشان انا اللي بعالجك وعارفة المصلحة فين .. 

همس يحاول استدراجها :- وتهمك مصلحتي ف ايه !؟.. 

همست مؤكدة :- عشان تخف وتخلص م العملية المتأجلة دي وتعتقني لوجه الله .. 

ابتسم بمرارة :- اذا كان كِده تبجى اتفهمت .. جومي جيبيلي حاچة تجيلة من جوه احطها على كتافي .. 

جزت على أسنانها وهو يأمرها بهذا الشكل وكأنها جاريته بدلا من ان يأمر جابر بذلك لكنها زفرت في نفاذ صبر واندفعت للداخل تحضر له غطاءً صوفيا وضعته على كتفيه ليتدثر به جاذبا إياه على جسده متلمسا دفئه وهو يرمقها بنظرات لم يكن لها تفسير بقاموسها الشحيح .. 

هتف جابرهاتفا فجأة :- تعرفوا ايه هي حكاية ليل وعين اللي بيتغنوا بيهم !؟.. 

قالها جابر ببساطة ليتطلع كل منهما للأخر للحظة ثم يحيد ناظريه عن صاحبه ليستطرد جابر مستجمعا اهتمامهما من جديد هامسا بصوت شجي:- حكولنا زمان ف الحواديت ان ليل كان عاشج .. وعين كانت معشوجته .. تاهوا ف البلاد وفرجتهم الدروب .. لكن عمرهم ما نسيوا بعضيهم وفضلوا يدورا على بعض .. هو يلف بلاد وينادي ياااعين .. وهي تلف بلاد وتنادي يا ليل .. لحد ما جمعهم المغنى .. وعمر ليل چه من غير عين .. ولا عمرها عين اتجالت من غير ما يكون مرافجها ليل .. 

كان كل منهما ينصت لحكاية جابر الأسطورية غير قادرعلى التطلع الى الاخر ليبدأ جابر في شدوه مترنما بمطلع يا ليل .. يا عين .. ثم استكمل مترنما بموال عن العشق وحال العاشقين :- 

ومنين نچيب ناس لمعنات الكلام يتلوه 

وانا جلبي يابا فرسه فدرب الهوى طلجوه 

لا عارف أرده يا بوي 

ولا واعي الصبر فين نلجوه ..


                 **************


٨- قاتلتها السمراء 


ظهر جابر على مطلع التلة التي تفضي الى الدار الحجري حيث يقيمون .. كانت تجلس على ذاك المقعد الحجري المستطيل الشكل الذي على ما يبدو انه جزء لا يتجزأ من احد جدران البيت .. 

هتف جابر في مودة فطرية يتميز بها اهل النوية بوجه عام مشوحا بيده متسائلا عن حالها :- ماسكاجنا .!؟.. 

هتفت عين الحياة مبتسمة بدورها تحاول تذكر الرد المناسب بالنوبية لتخبره انها بخير :- ماسكاجر .. 

قهقه جابر مؤكدا :- بتتعلمي بسرعة يا داكتورة .. ده شوية ومنعرفش نفرجك عنينا .. 

قهقهت بدورها هاتفة :- بحاول .. 

واستطردت وهي تشير للقرية النوبية البعيدة نوعا ما :- ايه الدوشة اللي هناك دي يا جابر !؟.. 

اكد جابر :- ده فرح يا داكتورة .. عجبال فرحك عن جريب .. 

طل ليل في تلك اللحظة متطلعا اليها لتشيح بناظريها عنه وهو يعاتب جابر هاتفا في نزق :- جاعد انت تحكي حكاوي الحريم دي وسايبني متلجح چوه .. مش تاچي نشوفوا هنعملوا ايه !؟. 

انتفض جابر هاتفا :- استغفر الله العظيم .. يا بيه ما اني كنت فاكرك نايم .. وبعدين كل اللي اتفجنا عليه اتحضر ومستني أوامر چنابك .. 

جلس ليل على طرف المقعد الحجري مشاركا إياه معها فشعرت بضيق عجيب يشملها ورغم بعد المسافة بينهما والتي تزبد عن المتر قليلا الا انها شعرت به اقرب مما ينبغي فتملمت في جلستها وهمت بالنهوض مغادرة لداخل الدار الا ان جابر هتف يستوقفها :- يا داكتورة !؟.. 

استدارت تستفسر فإذا به يسألها :- ليكِ شوج تنزلي تتفرچي ع الحنة اللي هتكون الليلة باذن الله .. 

نقلت نظراتها بين ليل وجابر وتساءلت في تردد:- هو ينفع !؟.. 

نهض ليل ووقف على حافة التلة متطلعا للأفق هاتفا في نبرة مسالمة على غير العادة :- اه ينفع .. واني كمان نازل .. 

هلل جابر في سعادة :- تمام جوي .. وانا كنت عامل حسابي وچبت لِك دِه يا داكتورة .. لازما تلبسيه مينفعش تنزلي بهدومك دي عشان يعني .. 

لم يكمل جابر حديثه لكنها استنتجت ما كان يعنيه فهزت رأسها موافقة وتناولت منه تلك اللفافة التي لا تعلم ما تحويه ودخلت لتبدل ملابسها .. 

ساد الصمت وليل لايزل يقف موضعه شاردا حيث سادت الظلمة على مدد نظره وبدأت أصوات الاحتفال تعلو وتناهى صوت الموسيقى بالدفوف الى حيث موضعهما لكنه استفاق من تيهه على أصوات رنانة جعلته يلتفت الى حيث مصدرها كانت عين قد ظهرت هاتفة في حرج :- انا خلصت.. 

وقفت عند باب الدار حيث يغمرها ضوء المصابيح التي تم إشعالها ما ان قررت الشمس الأفول لتظهر بذاك الزي الذي جعلها ايه من جمال رغم بساطته.. 

كان صوت تلك القلائد الذهبية التي ترتديها هو ما جعل ليل يستديروظل يتطلع اليها في صمت غامض ولم يعلق بحرف واحد رغم انه لم يحد بناظريه عنها مما جعلها تضطرب خجلا الا ان جابر هتف في انشراح :- الله يا داكتورة .. الچِرچار عليكِ حاچة عظمة .. 

ابتسمت حياءً هامسة :- متشكرة يا جابر بس هو اللبس ده اسمه الجرجار !؟.. 

اكد جابر :- اه يا داكتورة .. ده عباية ملونة وفوجيها عباية سودا من التل .. دِه الزي النوبي .. 

تطلعت عين لطرف الزي الخلفي وهتفت :- طب وليه طويل من ورا شوية عن قدام !؟.. 

قهقه جابر مفسرا :- ما دِه سبب تسميته يا داكتورة .. چِرچار .. يعني طرفه بيتچرچر وراكِ وانتِ ماشية عشان يخفي اثر خطوات الحريم .. نوع من أنواع الأمان يعني .. 

هزت عين رأسها متفهمة ليخرج ليل من صمته أخيرا وهتف بنفاذ صبر :- مش ننزلوا ولا لسه فيه حكاوي تاني !؟.. 

تحرك جابرمستغفرا يهرول نازلا التلة  ليتبعه ليل بخطوات متمهلة وهي تتبعه .. كانت تعتقد انه لايزل متعبا جراء جرحه الذي بدء يطيب الا انها تأكدت انه يبطئ الخطى من اجلها .. كانت تجاهد لكي تهبط بشكل صحيح غير مندفع قد تكون نهايته ملقاة اسفل التلة .. 

تحققت مخاوفها حرفيا فقد بدأت في الاندفاع هبوطا رغما عنها وكأنما احد يدفعها عنوة وتخيلت نفسها ممددة بجرف التلة بعد ان تعثرت في خطواتها الا ان ليل كان الأسبق ليقف في طريق اندفاعها مكونا حائطا منيعا صد جسدها عن الانحدارالمتهور نحو الأسفل ..

نوقف الاندفاع وألتقطت أنفاسها في تتابع محموم وهي تدرك انها نجت بأعجوبة لكن ذاك الوضع الحميمي الذي وجدت نفسها به كان الادعي لتستمر ضربات قلبها في التزايد وهي تضع كفيها مفرودتين على صفحة صدره الملاصقة له تحاول الابتعاد لكن لا مجال لذلك وقدماها مغروزتان في الرمال .. 

رفعت ناظريها اليه تحاول ان تقول شيئا .. أي شيء يخرجها من متاهة المشاعر التي تدور فيها ولا تجد لها مخرجا الا انها على العكس وجدت نفسها في متاهة اكثر تيها عندها تلاقت نظراتهما وغابت تماما عن حدود الزمان والمكان وهي تبصر بقلب هاتين العينين السمراوتين عالم من عجب.. ودنيا من حلم ..وأطياف من بهجة ..وحياة من ابدية .. مشاعر خرقاء واحاسيس تعربد بين جنبات الروح في عشوائية حلوة وصخب صامت اشد ضجيجا من عزف ألاف الدفوف .. وحشة وانس ودود ووحشية تعلن عن نفسها في همجية متحضرة بقرع طبول قبائل بدائية قد أتخذت من العشق مذهبا ..

انتفضت لكنها لم تشح بنظراتها عنه اوترفع كفيها عن صدره وهو يمد كفيه ممسكا كتفيها يثبتها موضعها حتى يتسنى له الحركة مبتعدا ليفض اشتباك المشاعر ذاك وفوضى الحواس التي غرق فيها حد الثمالة وأخيرا ما ان اطمئن انها بخير تحرك يوليها ظهره مستكملا طريقه وهو يضع كفه على موضع جرحه الذي اعتقدت انه يؤلمه جراء اندفاعها بهذا الشكل تجاهه الا انها تنبهت انه يضع كفه على موضع قلبه ولم يرفعه عنه الا عندما اقترب من حدود القرية النوبية فمد كفه يغطي وجهه بطرف عمامته ليدخل القرية خلف جابر ملثما لا يظهر من خلف لثامه الا عينيه قاتلتها السمراء .. 

تنبهت انه اتجه لموضع الرجال في أقصي المكان يحاول ان لا يكون ظاهرا على قدر الاستطاعة اما هي فقد توجه بها جابر لتستقر جوار شقيقته مستورة التي أهدتها الجرجار الذي ترتديه اللحظة لتصبح واحدة من فتيات كثر يجلسن مصفقات او مشاركات في حلبة الرقص على قرع الدفوف وأنغام الأغاني النوبية المبهجة .. 

جذبتها مستورة لتشاركهن الرقص الإيقاعي المتمايل فتمنعت قليلا الا انها نهضت تشارك بالفعل وقد غمرتها عدوى الفرحة التي استجابت لها بكل كيانها .. بحثت عنه بناظريها حيث جلس منذ وصولهم الا انها لم تجده .. بحثت عن جابر فلم تجده كذلك .. شعرت ان في الامر سرا .. قررت تجاهل غيابهما والاستمتاع ولو قليلا وخاصة عندما عرضت عليها مستورة رسم بعض الحناء على ظاهر كفيها فوافقت على الفور .. لكنها بعد فترة قصيرة ما ان انتهت من رسوم الحناء عادت تبحث عنهما بعيون زائغة حتى ظهرا أخيرا قرب نهاية الحفل .. 

أشار اليها جابر لتتبعهما فأطاعت ترفع اطراف الجرجار حتى تستطيع اللحاق بهما .. 

دخلا الدار الصخري أخيرا فتنهدت في تعب بعد ما عانته لصعود التلة وشعرت برغبة شديدة في النوم.. 

دخل ليل الغرفة وتبعته متجهة الى ركنها المعتاد الا انه هتف يستوقفها مشيرا للفراش :- السَرير بجي ليكِ يا داكتورة .. انا بجيت تمام ومش محتاچ حد معاي خلاص .. هفرش لي ف اوضة تانية  وانتِ خدي راحتك هنا.. 

لم تعقب بحرف فهذا من دواعي سرورها ان تمدد جسدها المنهك على فراش دافئ أخيرا .. جمع حاجياته المبعثرة بالغرفة وما ان هم بالخروج منها الا واستوقفته هاتفة :- انت خدت الأدوية والغيار ع الجرح ليه !؟.. خليهم ووقت ما .. 

قاطعها ليل مؤكدا :- مفيش داعي .. الچرح طاب ولوهحتاچ غيار عليه هخلي چابر يجوم بالواچب .. كفاية تعبك لحد كِده .. تصبحي على خير .. 

واندفع خارج الغرفة مغلقا بابها خلفه لتتطلع الى الفراغ الذي خلفه رحيله مستشعرة امرا ما غير اعتيادي وخارق للمنطق يدب بصدرها محدثا قرع على أبواب القلب وجدران الروح .. فماذا يمكن ان يكون !؟.. 

جلست على طرف الفراش وتحسست موضعه حيث تمدد جسده لعدة ايّام وتركت جسدها يتمدد بدوره لا تعلم ما دهاها وهي تتطلع لسقف الغرفة الذي يتراقص عليه شعاع المصباح البعيد متذكرة حالتها العجيبة آنذاك وهي تحاول الخلاص من شرك احضانه لكنها اللحظة تدرك بعين مفتوحة وعقل واعِ انه لا خلاص .. مما جعلها تنتفض مذعورة تحاول ان تنفي هذه الحقيقة التي باتت جلية امام ناظريها .. اكثر جلاءً وواقعية من نبضات قلبها التي تتقاذف بين أضلعها اللحظة معلنة ميلادا لخفقة فؤاد تحمل اسمه الرنان الذي ظل يتردد داخل عقلها المشوش ..ليل الجارحي ..


                ************


٩- الهودج 


كان يحاول ان يمنع نفسه بشتى الطرق من الاتصال بها لغير سبب مقنع .. لكن من اين له بالأسباب المقنعة وما تنتظره هي من اخبار لم يكن بقادر على معرفتها .. 

اصرعلى تجاهل ذاك الالحاح العجيب الذي يستشعره ليضغط رقمها الا ان كل ذلك ذهب ادراج الرياح عندما وجد نفسه لاأراديا ينتظر صوتها على الجانب الاخر .. 

ألتقط أنفاسه يحاول الحصول على بعض الثبات بنبرات صوته وهي تجيب في لهفة تمنى لو تكن من اجله :- الو .. ايوه يا حضرة الظابط .. 

هتف بصوت متحشرج :- السلام عليكم .. ازيك يا آنسة نجوى !؟.. وازي الوالدة !؟.. 

هتفت نجوى مؤكدة :- بخير الحمد لله .. ها فيه اخبار .. انا خلاص مبقتش قادرة أخبي على ماما اكتر من كده.. الفترة طولت بجد .. عشر ايّام كتيروماما مش مقتنعة أصلا ان عين ممكن تبعد عننا وعن المصنع بتاع بابا الله يرحمه الفترة دي كلها .. 

هتف هشام متحرجا :- الصراحة مفيش جديد لحد دلوقتي.. وانا اسف على تطفلي بس حبيت أبلغك اننا بنحاول بأقصى جهد الوصول لأي حاجة نقدر نعرف بيها طريق اختك ..

هتفت نجوى وقد بدأت في النحيب :- يعني برضو لسه مفيش أي خبر حتى يطمنا عليها ..!؟.. أقول لماما ايه دلوقتي ..!؟.. اقولها اني بسبب هزار بايخ عرضت عين لمصيبة زي دي وأننا مش عارفين حتى اذا كانت عايشة ولا .. 

وتعالى صوت البكاء والذي صمت فجأة ما ان هم بمواساتها واضطرب الهاتف بيده وهو يستمع لصوت صرخات نجوى مصحوبة بنداء ملتاع على أمها التي سقطت ارضا تضع كفها موضع قلبها العليل ولا تستطيع إلتقاط أنفاسها .. 

               ***********

طرقات على باب الحجرة جعلتها تنتفض مشوشة الفكر بعد تلك الصدامات التي عانتها بين قلبها وعقلها .. 

فتحت الباب ليطالعها سبب الصراع الأوحد .. ليل الجارحي واقفا ببابها يهتف في نفاذ صبره المعتاد:- اچهزي حلاً .. لازما نمشوا .. 

هتفت متسائلة ولازال النعاس يخيم على نبرتها :- هنروح فين !؟.. 

هتف بوجهها ساخرا في حدة :- بتسألي !؟..دِه على أساس اني هجولك مثلا !؟.. انتِ تجولي حاضر وبس .. 

استفاقت بشكل تام بعد صراخه ذاك مما دفعها لتجز على أسنانها في غيظ وتدفع بباب الحجرة مغلقة إياه بوجهه في عنف جعله يقف موضعه لبضع ثوان يود لو يدخل الى حجرتها لقتلها والخروج بنفس راضية .. لكنه ضم كفيه في شدة واندفع مبتعدا قبل ان ينفذ ما يريح باله ..

خرجت مرتدية ملابسها السابقة دافعة بالجِرجار لداخل حقيبة النقود مع بعض الأغراض الأخرى .. 

خرجت من الدار لتفاجأ بعدد من الحمير والإبل تحمل بعض الصناديق وهو يمتطي صهوة فرس شهباء جميلة .. لكن اين موضعها يا ترى من هذه القافلة !؟.. تنبه لوقوفها على اعتاب الدار فأشار لأحدى النوق الباركة امرا :- اطلعي .. 

هتفت في ذعر :- اطلع فين !؟.. لا .. انا بخاف .. انا عمري ما ركبت جمل .. 

كان يتمتم لا تعرف هل كان يتضرع لمزيد من الصبر ام كان يصب اللعنات على رأسها !؟.. 

ترجل من على فرسه جاذبا إياها من ساعدها تجاه الناقة امرا وهو يشير لهودجها :- اطلعي متخافيش .. ده اامن مكان تبجى فيه .. الچو هايبجى صعب..

كان يقول كلماته تلك بنبرة هادئة محاولا اقناعها بالمنطق على عكس ما تصورت تماما فقد توقعت عندما سحبها خلفه بتلك الطريقة انه سيدفع بها عنوة لداخل الهودج وليكن ما يكون .. 

هزت رأسها متفهمة وهي تحاول الصعود لكن دون جدوى فقد كان طولها بالكاد يصل لمستوى قاعدة الهودج على ظهر البعير وبعد عدد لا بأس به من المحاولات الفاشلة التي قضت على البقية الباقية من صبره المنعدم من الأساس حتى امرها وهو ينحني مشبكا أصابع كفيه ببعضهما :- اركبي .. 

نظرت في عدم تصديق لما يفعل هامسة في نبرة بلهاء :- اركب فين !؟.. 

همس شارحا :- حطي رچلك هنا على كفوفي واركبي .. سهلة اهي ..  

تطلعت من جديد لكفيه المتشابكتين اللذين من المفترض ان تضع عليهما قدمها لتكونا كدرج يسهل عليها الصعود على ظهر البعير وتشجعت لتنفذ ما امرها به قبل ان يخرج عن طوره موبخا واضعة قدمها على كفيه ليدفع بها في لحظة لداخل الهودج كطرد بريدي .. 

تنفس ليل الصعداء عندما تأكد انها أصبحت تستقر بالداخل فما كان لديه مزيد من القدرة اوالشجاعة ليضع كفا عليها .. يكفيه ما يعانِ منذ البارحة حينما وقع ناظريه عليها بذاك الزي الذي اكسبها جمالا فطريا غير معقول وكذلك تلك الحلي التي كانت تصدر صوتا متلازما مع خطواتها يذهب بثبات العابد ليجدها بعدها بين ذراعيه متشبثة باحضانه حتى لا تسقط  ارضا فيسقط هو بديلا عنها صريعا لنظراتها التي أشعرته انه يقف على الأعراف لا فازبجنة عشقها ولا تلظى بنار بعادها .. ما بين بين هي حالته التي لايزل يعانيها ما ان تقع عيناه على محياها .. 

طال شروده لتخرج عين رأسها من خلف غلالة رقيقة تحيط بالهودج هامسة :- هو احنا مش هانمشي ولا ايه !؟.. 

تنبه امرا إياها :- امسكي يعمدان الخشب اللي عندك كويس عشان جومة الچمل صعبة شوية .. مش عايزين نلاجوكِ محدوفة بره احنا ما صدجنا ركبناكِ من الأساس .. 

كان يقول كلماته الأخيرة بلهجة ساخرة دفعتها لتعاود النظر من خلف الغلالة في غيظ متناسية الإمساك بالأعمدة الخشبية كما امرها الا انها استشعرت حركة الجمل فجأة فتشبثت بالأعمدة في قوة وهي تندفع بشدة للأمام مع حركة قوائم الجمل الخلفية ثم تعود لتندفع فجأة للخلف بشدة مع نهوض الجمل على قوائمه الأمامية وأخيرا تستقر في اتزان بعد ان اصبح الجمل جاهزا للمسير .. شعرت بالإعياء والرغبة في افراغ معدتها مع كل هذه الارجحة لكنها تجاهلت شعورها ذاك  وهو يهتف من على صهوة فرسه :- انتِ تمام فوج !؟.. 

لم يكن باستطاعتها المجازفة وإخراج رأسها للرد عليه والا قد يحدث ما لا يحمد عقباه  لذا أخرجت كفها رافعة إبهامها كعلامة متعارف عليها ان كل الأمور على ما يرام  مما دفعه ليئد قهقهاته على حالها الذي يدركه تماما مكتفيا بابتسامة ارتسمت على شفتيه وهو يندفع بفرسه متقدم القافلة العجيبة التي اعادتها لزمن الجاهلية .. 

تطلعت للأفق من عليائها فإذا بالليل يفك اخر خيوط ثوبه المعتم عن السماء لتبدأ الشمس في التثاءوب معلنة استيقاظها على استحياء ولازلت تحتجب خلف عدة غيمات تسيطر عليها الرغبة في النعاس.. 

سرحت بعين خيالها وحلمت انها احدى الأميرات التي يحرسها جيش من الجنود عند انتقالها من قصر ابيها السلطان الى قصر زوجها الأمير .. 

كان الترنح داخل الهودج يبعث على النعاس وخاصة انها لم تنل قسطا كافيا من النوم بعد سهادها لساعات وإيقاظه لها للرحيل في تلك الساعة المتأخرة من الليل .. كانت اشبه بطفلة تُهدهد داخل فراشها الوثير فبدأت عيناها في الاستسلام لنداءات النوم الا انها نفضت الكرى عن جفونها فجأة عندما تناهى لمسامعها صوت مزمار شجي يُعزف بواسطة احد الرجال بمطلع القافلة مترنما بصوت رخيم بموال عشق :- 

واه يا ليل .. يا ليلي .. ع اللي حب ولا طالشي

واه يا عين .. يا عيني .. ع اللي داب ولا جالشي.. 

اه يا ليل واه يا عين .. ميتا الزمان يا خلي .. 

يچود بالوصل ما يبخلشي .. 


تطلعت بنظرة خفية من خلف غلالة الهودج لتجده عاد من مقدمة القافلة ليسير جوار بعيرها  ترتسم على قسمات وجهه جدية وصلابة أشعرتها ببعض الرهبة .. وتساءلت الى اين يا ترى ستكون وجتهم القادمة !؟.. 

سؤال هي تعلم انها لن تعرف إجابته الا عند الوصول لمستقرهم الجديد فلم تشغل بالها به .. 

اعادت النظر من خلف غلالة الهودج الرقيقة من  جديد ليرفع ليل ناظريه لاأراديا تجاهها لتتلاقى النظرات لوهلة .. تراجعت هي للداخل لكنها لازالت تبصر نظرات عينيه معلقة بالهودج وقد لانت قسمات وجهه لتحمل هذه المرة بعض من الشغف والقليل من الرقة وشبه ابتسامة .. 

             **************

           ١٠- لحظات أمان 


هتفت نجوى من بين دموعها وهي تقف على اعتاب حجرة العناية الفائقة حيث ترقد أمها :- انا مش عارفة كنت هعمل ايه لوانت مش موجود !؟.. 

هتف هشام منكسا رأسه :- متقوليش كده .. انا عملت ايه يعني !؟.. الحمد لله اني كنت اجازة وكمان طلعنا جيران ولحقت مامتك .. 

قال كلماته الأخيرة بابتسامة سعادة لتبتسم بدورها في رقة من خلف دموعها .. 

واستطرد هاتفا :- المهم ان الدكتور طمنا على والدتك .. بصراحة الصدمة كانت صعبة عليها .. ربنا يعينها .. 

همست نجوى بنبرة تحمل الكثير من الشعور بالذنب :- انا السبب .. طول عمري متهورة ومش بحسب لتصرفاتي حساب .. وعين دايما كانت بتستحملني .. بابا الله يرحمه كان مدلعني وهي فضلت تدلع فيا بعده .. 

هتف هشام محاولا التخفيف عنها :- انتِ لما عملتي كده مكنش قصدك حاجة وحشة .. بالعكس كان كل غرضك انك تخرجي اختك من حالة الضغط اللي عليها بسبب انها شايلة كل المسؤلية لوحدها.. يعني ف الأساس كنت بتحاولي تسعديها... بس النصيب بقى وده ملناش يد فيه .. 

هتف بكلماته الأخيرة حاملة مغزى ما تمنى ان يصلها .. 

صمتت ولم تعقب ما استدعاه ليهتف في اضطراب:- طب انا هروح اجيب لك حاجة تشربيها .. لسه الليل قدامنا طويل .. 

هتفت نجوى في حرج :- لا .. تجيب ايه .. وليل ايه اللي طويل !؟.. كفاية قوى تعب حضرتك معايا لحد كده .. حرام تقضي اجازتك ف المستشفى .. 

نظر اليها عاتباً :- بقى ده ينفع !؟.. اسيبك لوحدك هنا وأمشي .. انا قاعد ومش هتحرك من مكاني الا بعد ما اطمن على والدتك .. وبعدين الاجازة لسه ف أولها .. قدامي فيها تلات ايّام تاني .. يعني هتزهقي مني .. 

نكست رأسها في خجل :- لا ازهق ايه حضرتك .. ده انت مشرفنا .. 

هتف هشام وهو ينهض باسما :- حيث كده بقى .. نخليها عشا .. عشان يبقى عيش وملح .. 

ابتسمت وهزت رأسها  في إيجاب .. 

               *************

أشار جابر للقافلة بالتوقف واندفع عائدا الي حيث كان يسير ليل ملازما لبعيرها بذيل القافلة .. 

اقترب من ليل هاتفا :- لازما نوجف حلاً .. فيه عاصفة شديدة چاية ف الطريج .. 

تطلع اليه ليل هاتفا :- انت متأكد ولا نكمل طريجنا!؟.. اللي فاضل مش كَتير .. 

اكد جابر في ثقة :- استغفر الله العظيم .. من ميتا چابر جالك حاچة وطلعت غلط !؟.. لاااه متأكد يا بيه .. ياللاه بسرعة ع التلة البَعيدة دي نداروا وراها لحد ما تعدي العاصفة وربنا يسلم .. 

هتف ليل امرا:- طب روح نبه ع الكل ياخد حذره وياللاه بسرعة على هناك .. 

تطلعت عين من فوق الهودج على ما يحدث هاتفة في قلق :- احنا وقفنا ليه !؟.. هو فيه حاجة حصلت!؟.. 

هتف ليل متطلعا للأفق كأنما يحاول التأكد من حديث جابر :- فيه عاصفة رملية جاية ولازما ناخد احتياطاتنا .. 

هتفت في ذعر :- عاصفة .. عاصفة ازاي يعني !؟

مش شوية هوا شديد وخلاص ..!؟.. 

كانت تهزي بكلماتها الأخيرة في محاولة لطمأنة نفسها الا انه هتف ساخرا :- شوية هوا ف جلب الصحراء حاچة مش هينة .. دي ممكن تدفنك حية.. 

شهقت في صدمة وهو يسحب لجام البعير ليوجهه الى تلك التبة التي اتفق مع جابر على الاحتماء خلفها وتبعه باقي أفراد القافلة في سرعة .. 

أناخ بعيرها لتعيد تجربة الارجحة التي تثير غثيانها من جديد .. لم تنتظر منه مساعدتها هذه المرة بل قفزت في رشاقة خارج الهودج .. 

قاموا بوضع البهائم أمامهم كحائط صد وخلفهم كانت التلة التي كان وجودها في تلك اللحظة هدية من المولى عز وجل .. 

امرها هامسا وهو يشير لمنطقة ما خلف البعير مباشرة :- خليكِ هنا ومتتحركيش مهما حصل.. 

وخلع عنه عمامته وبللها ببعض الماء مقتربا منها هامسا :- معلش لازما عشان .. 

لم يكمل جملته عندما هزت رأسها تفهما وهو يميل عليها قليلا يحاول ربط  قماش العمامة المبللة حول انفها وفمها وما ان انتهى حتى ابتعد قليلا متطلعا اليها ليتأكد من ان الامر تم على خير ما يرام ليصطدم بعيونها من خلف قناعها فيرتج اضطرابا وما ان هم بالابتعاد حتى همست :- طب وانت !؟.. 

لم يستدر لمقابلة عيونها من جديد وهمس مؤكدا :- متجلجيش هتصرف .. 

واندفع يُؤْمِن باقي أفراد القافلة بمعاونة جابر لتبدأ الرمال في التحرك نحوهم وكأنها وحش كاسر يصبح اكثر ضراوة كلما ازداد اقترابا .. 

امر ليل الجميع صارخا بالاحتماء قدر الإمكان خلف أجساد البعير والخيول التي اناخوها متخذينها ساترا .. 

دس جسده جوارها خلف ذاك البعير.. شعر بذعرها وانتفاضة جسدها رهبة .. همس مطمئنا:- متخافيشي .. اجفلي عيونك وفكري ف أي حاچة تنسي بيها اللى بيحصل .. وكله هيعدي .. 

اومأت برأسها في طاعة وضمت ركبتيها لصدرها وخبأت وجهها بين ذراعيها المتشابكين وحاولت ان تتذكر شيء ما يجعلها تلتهي عن تلك الزمجرة المخيفة التي تكاد تقتلع قلبها رعبا من بين ضلوعها لكن لم تسعفها الذاكرة في تلك اللحظة بأي ذكري تكون من القوة التي تجعلها تتخطى عواء الريح فوق رأسها .. مدت كفيها تتشبث بأطراف الهودج الذي تحتمي خلف جسد البعير الذي يعتليه وهنا قفزت ذكرى ما مر جرى بينهما امس .. تلك اللحظات التي لا تحسب على زمن كانت كفيلة بجعلها تهيم بعالم اخر.. دفعت جسدها ليسترخي في هدوء وعقلها يعيد صورة حية لحالهما في تلك اللحظات السحرية.. 

وتعجبت .. كيف لبضع ثوان ان تكون مصدر لأمان !؟.. كيف لذكرى خاطفة كتلك ان تشعرها بكل هذا الاطمئنان بقلب عاصفة يمكن ان توئدهم احياء اذا ما طال أمدها !؟.. 

لا تعلم لما احست برغبة ملحة في رفع جبينها ولو قليلا لتستطلع ما يحدث .. لم تفكر للحظة في مدى صحة رغبتها من عدمه بل انها نفذت في التو ورفعت هامتها قليلا تختبر الوضع لتجد ان الريح لا تزل على هبوبها لكن يبدو ان الامر بدأ في الهدوء نسبيا .. اوهكذا ظنت .. لكنها شهقت عندما اكتشفت ما يحدث .. لقد هدأت الريح بالفعل لكن ضربات قلبها هي التي ثارت عندما وجدته منتصبا على ركبتيه يميل قليلا على جسدها مكونا بجسده الذي ألصقه بجسد البعير ما يشبه المظلة التي كانت تقيها من سقوط ذرات الرمال على جسدها المنثني في ذاك التجويف الذي أبقاها به .. 

دمعت عيناها رغما عنها وتساءلت بنفسها .. هل كانت لحظات البارحة جالبة للامان !؟.. وماذا عن هذه اللحظة التي ستظل تحفرها بذاكرتها للأبد عندما تجتمع عليها خطوب الدنيا وتريد ان تستعيد لحظة استشعرت فيها الأمان الحقيقي في ظله !؟ .. 

               ************* 

اندفع هشام لداخل المشفى ليطمئن على والدتها يشعر برغبة شديدة في البوح بما يستشعره نحوها منذ اللحظة الأولى التي طالعها فيها منحنيا يحاول مساعدتها في النهوض بعد ان سقطت جراء اصطدامهما .. ابتسم للذكرى وقد اقترب من الممر الذي يضم حجرة أمها وها هو يبصرها تقف مع احدهم .. استشعر بعض من دبيب الغيرة داخله لكنه سيطر عليها وهو يقترب محييا معتقدا ان ذاك الرجل الذي تحادثه اللحظة هو احد أقاربها جاء يطمئن على صحة أمها ما ان وصله خبر مرضها لكنه كان مخطئا عندما هتف الرجل في لهجة تهديدية من الطراز الأول :- انا قلت اللي عندي وانتوا حرين .. الفلوس تيجي وكل واحد ياخد حقه ويا دار ما دخلك شر .. سلام عليكم .. 

رحل الرجل في عجالة وقسمات وجهه تحمل علامات نفاذ الصبر لتجلس نجوى شاردة لا تعلم ما عليها فعله .. تنحنح هشام جالسا جوارها هاتفا في محاولة لفهم ما يحدث :- مين الأخ ده !؟.. قريبكم !؟.. وليه بيتكلم معاكِ كده !؟.. يعني ده المفروض انه .. 

هتفت نجوى تريحه مجيبة على كل أسئلته :- ده واحد من الديانة .. 

هتف هشام متعجبا :- ديانة ايه !؟.. انتوا مديونين لحد بفلوس !؟.. 

همست نجوى بشرود :- عشان كده عين طول الوقت كانت شايلة الهم .. من ساعة وفاة بابا وهي بتقفل على نفسها اوضة المكتب بالساعات ومنعرفش بتعمل ايه .. اتاريها كانت بتحاول تنقذ المصنع من الحجز عليه بسبب الديون دي كلها .. 

كان هشام يستمع اليها صامتا ولم يعقب بحرف تاركا لها حرية الإفصاح عما بداخلها لتستطرد هي وقد استدارت تواجهه :- مصنع الملابس بتاع بابا واللي كان اعز حاجة عنده بعد بناته واللي ضيع عليه عمره هيروح .. المصنع عليه ديون كبيرة ولازم سدادها والا هينزل المزاد ويروح مننا .. 

هنجيب منين كل الفلوس دي لسداد الدين .. حتى الفلوس اللي ف البنك لما جيت اسحب منها جزء النهاردة عشان المستشفى لقيت الحساب بقى صفر لأن عين سحبت الفلوس كلها عشان تيجي تنقذني من العصابة الوهمية بالفدية  .. 

همس مؤكدا :- متقلقيش من أي حاجة .. اعتبري فلوس المستشفى ادفعت .. وتبقى دين عليكِ لما ترجع عين بالسلامة .. 

سال دمعها هامسة في خيبة :- عين !؟.. هي فين!؟.. لو كانت موجودة مكتنش شيلت الهم ابدا.. كنت هبقى متأكدة انها هتعمل المستحيل عشان المصنع اللي من ريحة بابا يفضّل شايل اسمه .. 

وهمست من بين دموعها التي زادت غزارة هطولها :- يا ترى انت فين يا عين !؟.. 

   

                *************


١٠- لحظات أمان 


هتفت نجوى من بين دموعها وهي تقف على اعتاب حجرة العناية الفائقة حيث ترقد أمها :- انا مش عارفة كنت هعمل ايه لوانت مش موجود !؟.. 

هتف هشام منكسا رأسه :- متقوليش كده .. انا عملت ايه يعني !؟.. الحمد لله اني كنت اجازة وكمان طلعنا جيران ولحقت مامتك .. 

قال كلماته الأخيرة بابتسامة سعادة لتبتسم بدورها في رقة من خلف دموعها .. 

واستطرد هاتفا :- المهم ان الدكتور طمنا على والدتك .. بصراحة الصدمة كانت صعبة عليها .. ربنا يعينها .. 

همست نجوى بنبرة تحمل الكثير من الشعور بالذنب :- انا السبب .. طول عمري متهورة ومش بحسب لتصرفاتي حساب .. وعين دايما كانت بتستحملني .. بابا الله يرحمه كان مدلعني وهي فضلت تدلع فيا بعده .. 

هتف هشام محاولا التخفيف عنها :- انتِ لما عملتي كده مكنش قصدك حاجة وحشة .. بالعكس كان كل غرضك انك تخرجي اختك من حالة الضغط اللي عليها بسبب انها شايلة كل المسؤلية لوحدها.. يعني ف الأساس كنت بتحاولي تسعديها... بس النصيب بقى وده ملناش يد فيه .. 

هتف بكلماته الأخيرة حاملة مغزى ما تمنى ان يصلها .. 

صمتت ولم تعقب ما استدعاه ليهتف في اضطراب:- طب انا هروح اجيب لك حاجة تشربيها .. لسه الليل قدامنا طويل .. 

هتفت نجوى في حرج :- لا .. تجيب ايه .. وليل ايه اللي طويل !؟.. كفاية قوى تعب حضرتك معايا لحد كده .. حرام تقضي اجازتك ف المستشفى .. 

نظر اليها عاتباً :- بقى ده ينفع !؟.. اسيبك لوحدك هنا وأمشي .. انا قاعد ومش هتحرك من مكاني الا بعد ما اطمن على والدتك .. وبعدين الاجازة لسه ف أولها .. قدامي فيها تلات ايّام تاني .. يعني هتزهقي مني .. 

نكست رأسها في خجل :- لا ازهق ايه حضرتك .. ده انت مشرفنا .. 

هتف هشام وهو ينهض باسما :- حيث كده بقى .. نخليها عشا .. عشان يبقى عيش وملح .. 

ابتسمت وهزت رأسها  في إيجاب .. 

               *************

أشار جابر للقافلة بالتوقف واندفع عائدا الي حيث كان يسير ليل ملازما لبعيرها بذيل القافلة .. 

اقترب من ليل هاتفا :- لازما نوجف حلاً .. فيه عاصفة شديدة چاية ف الطريج .. 

تطلع اليه ليل هاتفا :- انت متأكد ولا نكمل طريجنا!؟.. اللي فاضل مش كَتير .. 

اكد جابر في ثقة :- استغفر الله العظيم .. من ميتا چابر جالك حاچة وطلعت غلط !؟.. لاااه متأكد يا بيه .. ياللاه بسرعة ع التلة البَعيدة دي نداروا وراها لحد ما تعدي العاصفة وربنا يسلم .. 

هتف ليل امرا:- طب روح نبه ع الكل ياخد حذره وياللاه بسرعة على هناك .. 

تطلعت عين من فوق الهودج على ما يحدث هاتفة في قلق :- احنا وقفنا ليه !؟.. هو فيه حاجة حصلت!؟.. 

هتف ليل متطلعا للأفق كأنما يحاول التأكد من حديث جابر :- فيه عاصفة رملية جاية ولازما ناخد احتياطاتنا .. 

هتفت في ذعر :- عاصفة .. عاصفة ازاي يعني !؟

مش شوية هوا شديد وخلاص ..!؟.. 

كانت تهزي بكلماتها الأخيرة في محاولة لطمأنة نفسها الا انه هتف ساخرا :- شوية هوا ف جلب الصحراء حاچة مش هينة .. دي ممكن تدفنك حية.. 

شهقت في صدمة وهو يسحب لجام البعير ليوجهه الى تلك التبة التي اتفق مع جابر على الاحتماء خلفها وتبعه باقي أفراد القافلة في سرعة .. 

أناخ بعيرها لتعيد تجربة الارجحة التي تثير غثيانها من جديد .. لم تنتظر منه مساعدتها هذه المرة بل قفزت في رشاقة خارج الهودج .. 

قاموا بوضع البهائم أمامهم كحائط صد وخلفهم كانت التلة التي كان وجودها في تلك اللحظة هدية من المولى عز وجل .. 

امرها هامسا وهو يشير لمنطقة ما خلف البعير مباشرة :- خليكِ هنا ومتتحركيش مهما حصل.. 

وخلع عنه عمامته وبللها ببعض الماء مقتربا منها هامسا :- معلش لازما عشان .. 

لم يكمل جملته عندما هزت رأسها تفهما وهو يميل عليها قليلا يحاول ربط  قماش العمامة المبللة حول انفها وفمها وما ان انتهى حتى ابتعد قليلا متطلعا اليها ليتأكد من ان الامر تم على خير ما يرام ليصطدم بعيونها من خلف قناعها فيرتج اضطرابا وما ان هم بالابتعاد حتى همست :- طب وانت !؟.. 

لم يستدر لمقابلة عيونها من جديد وهمس مؤكدا :- متجلجيش هتصرف .. 

واندفع يُؤْمِن باقي أفراد القافلة بمعاونة جابر لتبدأ الرمال في التحرك نحوهم وكأنها وحش كاسر يصبح اكثر ضراوة كلما ازداد اقترابا .. 

امر ليل الجميع صارخا بالاحتماء قدر الإمكان خلف أجساد البعير والخيول التي اناخوها متخذينها ساترا .. 

دس جسده جوارها خلف ذاك البعير.. شعر بذعرها وانتفاضة جسدها رهبة .. همس مطمئنا:- متخافيشي .. اجفلي عيونك وفكري ف أي حاچة تنسي بيها اللى بيحصل .. وكله هيعدي .. 

اومأت برأسها في طاعة وضمت ركبتيها لصدرها وخبأت وجهها بين ذراعيها المتشابكين وحاولت ان تتذكر شيء ما يجعلها تلتهي عن تلك الزمجرة المخيفة التي تكاد تقتلع قلبها رعبا من بين ضلوعها لكن لم تسعفها الذاكرة في تلك اللحظة بأي ذكري تكون من القوة التي تجعلها تتخطى عواء الريح فوق رأسها .. مدت كفيها تتشبث بأطراف الهودج الذي تحتمي خلف جسد البعير الذي يعتليه وهنا قفزت ذكرى ما مر جرى بينهما امس .. تلك اللحظات التي لا تحسب على زمن كانت كفيلة بجعلها تهيم بعالم اخر.. دفعت جسدها ليسترخي في هدوء وعقلها يعيد صورة حية لحالهما في تلك اللحظات السحرية.. 

وتعجبت .. كيف لبضع ثوان ان تكون مصدر لأمان !؟.. كيف لذكرى خاطفة كتلك ان تشعرها بكل هذا الاطمئنان بقلب عاصفة يمكن ان توئدهم احياء اذا ما طال أمدها !؟.. 

لا تعلم لما احست برغبة ملحة في رفع جبينها ولو قليلا لتستطلع ما يحدث .. لم تفكر للحظة في مدى صحة رغبتها من عدمه بل انها نفذت في التو ورفعت هامتها قليلا تختبر الوضع لتجد ان الريح لا تزل على هبوبها لكن يبدو ان الامر بدأ في الهدوء نسبيا .. اوهكذا ظنت .. لكنها شهقت عندما اكتشفت ما يحدث .. لقد هدأت الريح بالفعل لكن ضربات قلبها هي التي ثارت عندما وجدته منتصبا على ركبتيه يميل قليلا على جسدها مكونا بجسده الذي ألصقه بجسد البعير ما يشبه المظلة التي كانت تقيها من سقوط ذرات الرمال على جسدها المنثني في ذاك التجويف الذي أبقاها به .. 

دمعت عيناها رغما عنها وتساءلت بنفسها .. هل كانت لحظات البارحة جالبة للامان !؟.. وماذا عن هذه اللحظة التي ستظل تحفرها بذاكرتها للأبد عندما تجتمع عليها خطوب الدنيا وتريد ان تستعيد لحظة استشعرت فيها الأمان الحقيقي في ظله !؟ .. 

               ************* 

اندفع هشام لداخل المشفى ليطمئن على والدتها يشعر برغبة شديدة في البوح بما يستشعره نحوها منذ اللحظة الأولى التي طالعها فيها منحنيا يحاول مساعدتها في النهوض بعد ان سقطت جراء اصطدامهما .. ابتسم للذكرى وقد اقترب من الممر الذي يضم حجرة أمها وها هو يبصرها تقف مع احدهم .. استشعر بعض من دبيب الغيرة داخله لكنه سيطر عليها وهو يقترب محييا معتقدا ان ذاك الرجل الذي تحادثه اللحظة هو احد أقاربها جاء يطمئن على صحة أمها ما ان وصله خبر مرضها لكنه كان مخطئا عندما هتف الرجل في لهجة تهديدية من الطراز الأول :- انا قلت اللي عندي وانتوا حرين .. الفلوس تيجي وكل واحد ياخد حقه ويا دار ما دخلك شر .. سلام عليكم .. 

رحل الرجل في عجالة وقسمات وجهه تحمل علامات نفاذ الصبر لتجلس نجوى شاردة لا تعلم ما عليها فعله .. تنحنح هشام جالسا جوارها هاتفا في محاولة لفهم ما يحدث :- مين الأخ ده !؟.. قريبكم !؟.. وليه بيتكلم معاكِ كده !؟.. يعني ده المفروض انه .. 

هتفت نجوى تريحه مجيبة على كل أسئلته :- ده واحد من الديانة .. 

هتف هشام متعجبا :- ديانة ايه !؟.. انتوا مديونين لحد بفلوس !؟.. 

همست نجوى بشرود :- عشان كده عين طول الوقت كانت شايلة الهم .. من ساعة وفاة بابا وهي بتقفل على نفسها اوضة المكتب بالساعات ومنعرفش بتعمل ايه .. اتاريها كانت بتحاول تنقذ المصنع من الحجز عليه بسبب الديون دي كلها .. 

كان هشام يستمع اليها صامتا ولم يعقب بحرف تاركا لها حرية الإفصاح عما بداخلها لتستطرد هي وقد استدارت تواجهه :- مصنع الملابس بتاع بابا واللي كان اعز حاجة عنده بعد بناته واللي ضيع عليه عمره هيروح .. المصنع عليه ديون كبيرة ولازم سدادها والا هينزل المزاد ويروح مننا .. 

هنجيب منين كل الفلوس دي لسداد الدين .. حتى الفلوس اللي ف البنك لما جيت اسحب منها جزء النهاردة عشان المستشفى لقيت الحساب بقى صفر لأن عين سحبت الفلوس كلها عشان تيجي تنقذني من العصابة الوهمية بالفدية  .. 

همس مؤكدا :- متقلقيش من أي حاجة .. اعتبري فلوس المستشفى ادفعت .. وتبقى دين عليكِ لما ترجع عين بالسلامة .. 

سال دمعها هامسة في خيبة :- عين !؟.. هي فين!؟.. لو كانت موجودة مكتنش شيلت الهم ابدا.. كنت هبقى متأكدة انها هتعمل المستحيل عشان المصنع اللي من ريحة بابا يفضّل شايل اسمه .. 

وهمست من بين دموعها التي زادت غزارة هطولها :- يا ترى انت فين يا عين !؟.. 

   

                *************

لمزيد من الروايات الحصريه الكامله حملو التطبيق ده 👇👇


من هنا

تكملة الرواية من هنا 👇👇👇


من هنا




Enregistrer un commentaire

Plus récente Plus ancienne